ستقر مفهوم المحاكاة في فلسفة الفنون منذ أن قال به المعلم الأول أرسطو(322384 ق.م) حتي نهاية القرن العشرين, كمفهوم يحكم عمل الإبداع الفني كعملية محاكاة للواقع, يقوم الفنان فيها بعملية إعادة ترتيب الحياة اليومية المبعثرة ليقدمها في صيغة تعبر عن وجهة نظر ما, تقوم بترتيب الواقع علي طريقتها ويدخل الإختيار الحر فيها كعامل جوهري يجعل الإبداع الفني شأنا أكبر من النقل الحرفي للواقع كما هو, وظل الأمر يسير علي هذا النحو حتي في المدارس الفنية والنظريات الدرامية المضادة للنظرية الأرسطية وللدراما والفنون الكلاسيكية والواقعية, فأكثر الفنون مفارقة للواقع كالتعبيرية والسريالية ثم الدراما الملحمية, وحتي مسرح العبث لا تخرج في مجموعها عن هذا المفهوم في محاكاة الواقع. ولم تفلح السينما, ولا الدراما التليفزيونية ولا البث الفضائي العالمي عبر الأقمار الصناعية الذي صاحبه إطلاق تعبير السماوات المفتوحة كعنوان لسفر الصور التليفزيونية حول العالم في تغيير المفهوم الأرسطي الراسخ للمحاكاة. إلي أن جاءت الشبكة الدولية للمعلومات, وأصبحت كل الإبداعات الفنية السابقة متاحة عليها, بل ومكنت الإنسان من نوع جديد من الثقافة المسموعة المرئية تعيد إنتاج الثقافة الشفاهية كعلامة بارزة للثقافة العامة في القرن الحادي والعشرين, ومع التكاثر اللامحدود للصور عبر الشاشات اللانهائية التي تحاصر الإنسان المعاصر, بدأت المسألة الفلسفية المستقرة في المحاكاة تأخذ إطارا جديدا يقوم علي المفهوم العكسي للنظرية, فلم يعد الواقع هو موضوع المحاكاة, بل الواقع الإفتراضي الخيالي عبر كل تلك الصور اللامتناهية التي تدور من حولنا. الحياة اليومية إذن هي التي تحاكي الصور الفنية الافتراضية لا العكس, والإبداع الفني يحاكي بعضه البعض ويستلهم الصور المطلة كواقع مواز للحياة اليومية.. لقد أصبح الواقع إذن هو الذي يحاكي الفنون, والصور المبتكرة في العالم الإفتراضي, فقد أصبحت تلك الصور هي نماذج الإحتذاء للبشر في الحياة اليومية, وفي مصر والأمية تقارب الأربعين في المائة من نسبة تعداد السكان, أصبحت تلك الثقافة الشفاهية عبر انتشار التكنولوجيا المتاحة سهلة الإستخدام, هي المصدر الرئيس للثقافة التي تعكس محاكاة الناس في حياتهم اليومية لمشاهداتهم الإفتراضية. يحدث هذا في المجتمعات المستقرة المتقدمة في النظم التعليمية والسياسية والمنتظمة في العادات الإجتماعية لتعاطي الفنون الجميلة, والمتوازنة في علاقات الإنتاج والإستهلاك لصالح هامش إدخاري يصنع ثروة للأفراد وللمجتمعات تمكنهم من وضع خطط للمستقبل. هناك تقوم تلك الصور الفائضة عن الحاجة البشرية بصناعة أنماط السوق العالمية للملابس والعطور وأدوات الزينة وأثاث المنازل وتصميم السيارات وغيرها من الحاجات المصنوعة التي يتوهم الإنسان أنها الأهداف الحقيقية للإنتصار في الحياة, والالتحاق بالعالم المعاصر. وهنا يكون تأثير تلك الصور الإفتراضية أكبر بالتأكيد, فهي, في ظل انحسار الفائض في دخول معظم المصريين, تصنع شعورا بالهزيمة يخرج الفرد معه من الأنماط المعاصرة للحياة السعيدة مما يجعلها صورا خطرة تساهم في تعظيم الشعور بالعزلة والقلق الوجودي لمجموعات كبيرة لم تلق حظا حقيقيا من التعليم, ولم تندمج في عادات الذهاب للمسرح وتعاطي الفنون الجميلة, ولم تنخرط في مسارات مهنية عادلة في إطار العمل ولذلك فتلك الصور اللامتناهية لهذه العوالم الملونة والثرية والغارقة في المتعة تسبب رغبة في محاكاتها وإعادة إنتاجها علي أرض الحياة اليومية, والسعي لإمتلاكها مع صعوبة ذلك, الأمر الذي يبدد المسارات المنطقية الواقعية التي تقوم علي العمل والكفاح والإعتراف بخشونة الواقع, ولذلك يموتون عبثا أثناء هروبهم في البحر في هجرة غير شرعية للجانب الآخر حيث الأحلام الملونة, ولذلك تضيع أعمارهم في برد الوحدة ويذبل شبابهن في ألم العنوسة. ولذلك أيضا يبقي الإبداع الفني الذي يحاكي الواقع غريبا مثله, مقفرا وفقيرا عندما يتجاهل كل تلك الصور الكاذبة في العالم الإفتراضي, ويحاكي الواقع الصادق بكل قسوته. ينطبق الأمر كذلك علي جاذبية تسويق حركة الجموع في الشارع, وعلي إنتاج السلوك الإحتجاجي كعمل يومي, ومحاولة تصوير الحياة اليومية في مصر وكأنها ساحة للقتال والتظاهر, إن البث المتعمد الكثيف لصور الحرب الأهلية السورية والعراقية, ومزجها بحرب مصر علي الإرهاب المسلح لهو جزء من صناعة هذا العالم الإفتراضي الذي يستهدف أن يقوم الواقع بمحاكاته لا إراديا, إنها محاولة التسويق عبر الصور اللامحدودة لنمط حياة يومي يتم تسريبه إلي اللاشعور الجمعي حتي يقبل فكرة أن الحياة في مصر يمكن أن تظل هكذا, بكل هذا التوتر, وبهذا الإستثناء التي تحاول الصور الكثيفة أن تجعله أمرا إعتياديا ومقبولا. فهل يمكن أن تطل علينا صور إفتراضية أكثر سعيا نحو مصر الجميلة الحرة المستقرة صاحبة النمط الحضاري الخاص في الحياة اليومية, إنها صور نفتقدها في شاشات العرض التي يحاكيها الناس لا شعوريا كل يوم. يري هذا التصور المختلف للمحاكاة عدد من النقاد المعاصرين, خاصة هؤلاء الذين يلمسون في أمريكا النمو اللانهائي لصناعة الصور والألعاب الإلكترونية, والإدمان الحاد لشبكات التواصل الإجتماعي وللشاشات الملونة التي أصبحت هي الواقع المعاش, خاصة مع التغير النوعي الجوهري في صناعة الفنون في عالم ما بعد الحداثة الغربية التي تقوم علي تجاهل السرديات الكبري للحداثة, وتخاصم عقلها المستنير المستقر, نحو إنتاجات تتعمد تفتيت البنية المستقرة للدراما, والشكل المستقر للموسيقي والغناء, حيث حضرت الشوارع الإفتراضية العنيفة والموسيقي الإلكترونية, والفنون التي تقلد بعضها البعض في هيئة صور تعرض وحدة الإنسان ولا شعوره الممزق ووحشة روحه, في ظل قسوة وخداع السياسة ورأس المال العابر للقارات. هذا التفتيت المتعمد للبناء الراسخ لفنون الحداثة الغربية هناك تصاحبه هنا بسبب رغبتنا في التواصل مع كل الصور الجديدة, عملية إنتاج تقوم علي التقليد لصور ما بعد حداثية مصرية في مجتمع لم تستقر تقاليد حداثته إستقرارا حقيقيا, بسبب رغبتنا في التواصل مع الصور القادمة من الغرب, وهو الأمر الذي علينا إدراكه في مصر الآن فالصور الفنية التي تعتمد علي البناء الواضح المستقر لم تختف تماما من الإنتاج الفني هناك, لكن فنون ما بعد الحداثة أكثر إبهارا وجاذبية لنا لكونها تعتمد علي صور مختلفة سهلة الفهم والإنتشار في عالم يستعيد ثقافة شفاهية ما بعد حداثيه, شفاهية ترتكن للتكنولوجيا الرقمية, وقدرتها علي طرح عالما إفتراضيا موازيا للواقع عبر كل هذه الشاشات التي علينا أن ننتبه لما تقدمه لنا, وأن نراجع إستخدامنا لها مراجعة تجعل محاكاة الناس لها محاكاة إيجابية نحو واقع مصري أكثر تماسكا يعي ذاته وإمكانات دخوله لمستقبل أفضل في عالم تغير فيه مفهوم المحاكاة, فعلينا أن ندرك أن كثرة الصور وتعددها وفيضها الشفاهي اللامتناهي يؤثر علي صفاء الذهن ونقاء الوعي الإنساني للفرد حيث أن تنظيم عملية تعرض وعينا لهذا الكم من الصور ضرورة للسلام النفسي والعقلي, وضرورة للإهتمام بالواقع الذي أهملناه كثيرا بينما أخذنا نبحث عنه في صوره الإفتراضية. لمزيد من مقالات د . حسام عطا