لم تكن مصر فقط هي التي ودعت الشاعر الراحل أحمد فؤاد نجم الأسبوع الماضي. ودعه العرب الذين تفاعلوا معه برغم أن فضاءه الشعري الرحب والعميق كان مصريا قحا. ودعته العامية المصرية التي أغدق عليها هداياه من تعابير طازجة مدهشة ومفردات مزركشة ومداعبات أرضت أنوثتها. عرف أحمد فؤاد نجم كيف يدلل العامية المصرية ويكشف عن كنوزها ومفاتنها. لهذا ستعلن العامية المصرية الحداد عليه طويلا وهو الذي أعلي من شأنها. اختلفت عامية أحمد فؤاد نجم عن عامية أحمد رامي. الثاني تعامل مع العامية المصرية برومانسية الارستقراط أما نجم فكان تعامله مع العامية المصرية أشبه بفتي ذهبي يقف علي قارعة حارة شعبية يتباري القافية مع العابرين. ثم يستريح قليلا في مقهي يشاكس رفاق اللعب والسمر ويوزع تعليقاته الجريئة وينثر القفشات والضحكات والمرح. راوغنا الرجل فجعلنا نتقبل ابتذالاته ولا نغضب من شتائمه ليس لأنها تضحكنا بل لأن وراءها وفيها كل أوجاع هذا البلد التي هي أوجاعنا, فكنا نري فيه أنفسنا. لهذا تحلق حوله الأرستقراط والمثقفون والأكاديميون والعمال والبسطاء والصعاليك. كان أحمد فؤاد نجم ملح الأرض. كان ملح الطعام الذي يمنحنا مذاقا حريفا بدونه سيكون طعام الشعر ماسخا وفاترا بلا مذاق. أحمد فؤاد نجم أكثر من شاعر. هو تجسيد لنموذج المثقف العضوي والشاعر الملتزم بقضايا وطنه وإنسانيته. كان الراحل إبنا عاشقا ومشاكسا لمرحلة الكبرياء الوطني والمد القومي التي عرفتها مصر في خمسينات وستينات القرن الماضي. لم يحل ايمانه بعروبة مصر دون إدراكه العميق بشخصيتها الموغلة في التاريخ. لهذا ستبقي محفورة في ذاكرة الأجيال معزوفته الخالدة مصر يامه يا بهية يام طرحة وجلابية.. الزمن شاب وانت شابة.. هو رايح وانت جاية. كيف استطاع أن ينسج من هذه المفردات البسيطة كل هذه الأخيلة والمعاني بل كل هذه الأبنية من المدركات العميقة؟ كان الراحل العظيم أشبه بطفل بريء مشاكس لا يكف عن إحداث الضجة والصخب في حياتنا الشعرية وقد تجاوز الثمانين من عمره. لطالما أبكانا أحمد فؤاد نجم علي حالنا السياسي وأضحكنا علي تشوهاتنا الاجتماعية. من منا لم يختنق صوته ببكاء مكتوم وهو يستمع الي فريدته الشعرية بقرة حاحا إحدي أعظم القصائد في تاريخ الشعر العامي في مصر؟ ومن منا لم يضحك وهو يستمع الي قصيدته كلب الست التي كتبها كصرخة ضد التفاوت الطبقي والظلم الاجتماعي. كان الراحل العظيم يفضح بشعره الجريء السليط أحيانا زيفنا وتشوهاتنا ويسخر من مجتمع كان يوما ما ملهما لمجتمعات أخري ثم سرعان ما ارتد علي أحلامه وسط جوقة من المنظرين تعزف لحن الانفتاح الكبير الذي أورثنا التخلف والتبعية والمهانة. ثمة شعراء يعانون من انفصام شعري فيكتبون غير ما يعيشون ويرددون غير ما يسلكون لكن أحمد فؤاد نجم كان من القلائل الذين لم ينل منهم فيروس الانفصام أو التنكر لقيم الشعر الأصيلة في الدعوة لتغيير واقع الناس الي الأفضل والأجمل. فماذا يتبقي من الشعر اذا بقي الشاعر يري فيه مظهر وجاهة ووسيلة صعود وترقي وشعرا لمجرد الشعر في وطن يئن من المظالم؟ ظل أحمد فؤاد نجم الطفل الثمانيني المشاكس وفيا لقيم المثقف الملتزم قابضا بيديه علي جمر مبادئه وقيمه. ظل يلبس جلبابه البلدي حتي يومه الأخير. ولعله حاول أن يجد نفسه في بدلة أفندي أنيق فلم يعثر علي ذاته. عرفناه في خوش قدم في غرف السطوح حيث كتب أروع القصائد وأطلق أنبل الصرخات ونسج أبلغ شعارات تدعو للحق والعدل والكرامة والمساواة. من هنا أناشد وزير الثقافة د صابر عرب أن يهتم بأمر خوش قدم ليبقي مكانا أو مكتبة أو مزارا يحفظ فيه للتاريخ ذكري احد شعراء مصر الكبار. فنحن لا نعرف شاعرا مصريا كبيرا كانت غرفته فوق السطوح مكانا يؤم عبر السنين كل هؤلاء البشر علي اختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية وشرائحهم الاجتماعية مثلما حدث في خوش قدم التي سكنها أحمد فؤاد نجم وسكنت أشعاره وقصائده. لم يأخذ أحمد فؤاد نجم من الشعر قصورا ولا مناصب ولا ذهبا ولا فضة, هو الذي أعطي للشعر سنوات من حياته وحريته وأمنه خلف قضبان السجون والمعتقلات. وتوزعت سنوات حرمانه من الحرية بعدد عهود الحكام الذين ضاقوا بأشعاره. فأمضي جزءا من سنوات سجنه في عهد عبد الناصر دون أن ينقلب علي مبادئ الرجل, وجزءا آخر في عهد السادات ثم في عهد مبارك. وستبقي قصيدته الورد اللي فتح في جناين مصر بعاميتها المعجونة بمفردات طقوس الحبل والولادة واحتفاليات السبوع في المجتمع المصري واحدة من قصائد القضبان التي لا تقل في عمقها وتأثيرها عن قصائد كبار الشعراء التي كتبت في السجون والمعتقلات. كتب محمود درويش الفلسطيني إلي أمه قصيدته الرقيقة أحن إلي خبز أمي خلال الأشهر المعدودة التي قضاها في سجون الاحتلال الإسرائيلي, بينما أرسل أحمد فؤاد نجم الي طلاب مصر وفتيانها تحية الصباح التي طالما ألهمت طلاب مصر وألهبت خيالهم في رحلة البحث عن فردوس الحرية. يرحل إذن أحمد فؤاد نجم تاركا لنا ليس فقط نوارته التي تختزن قبسا من روحه النضالية ولا أشعاره المدوية المسكونة بروح المقاومة, مقاومة الاستبداد والظلم والفساد والزيف والتشوه والنفاق. يرحل أحمد فؤاد نجم مسدلا الستار علي حقبة جيل المبدعين المناضلين مثله مثل الراحل العظيم أمل دنقل. أعطوا للشعر ولم يأخذوا منه مقابلا. أحبوا مصر ولم ينتظروا منها منصبا أو جاها. والأهم من هذا كله أنهما- أي أحمد فؤاد نجم وأمل دنقل- لم يقتربا يوما من قصور السلاطين ولم يضبط أحدهما يغني في حضرة سلطان أو لحضرته. لمزيد من مقالات د. سليمان عبد المنعم