في اليوم التالي لوفاة المناضل السياسي العظيم نيلسون مانديلا جمعتني مناسبة اجتماعية مع د. بطرس غالي سكرتير عام الأممالمتحدة الأسبق والدبلوماسي الدولي المخضرم.. فانتهزت هذه الفرصة السانحة ليحدثني د. غالي عن ذكرياته مع مانديلا حيث كان من أقرب المقربين إلي قلب الزعيم الإفريقي لأن د. غالي من خلال تقلده منصب وزير الدولة للشئون الخارجية علي مدار حقبة زمنية مهمة من نضال مانديلا ضد سياسة الآبارتايد أوالتفرقة العنصرية في جنوب إفريقيا.. ساهم في الافراج عنه واقرار المصالحة في جنوب إفريقيا.. هكذا كشف الدكتور بطرس غالي لملحق الجمعة حقائق وخبايا تاريخية خاصة بمانديلا أيقونة المصالحة الوطنية في إفريقيا ورمز الحرية والوطنية والإصرار.. يقول الدكتور بطرس غالي لقد جاء مانديلا لزيارتي في يوليو1992 أي بعد بضعة أشهر عقب تعييني كأمين عام للأمم المتحدة.. ودعيني أقول لك.. إنني بدأت الاهتمام بقضايا جنوب إفريقيا كوزير دولة للشئون الإفريقية وكان هناك في القاهرة حزبان من جنوب إفريقيا يبحثان في القارة عن نفس الهدف وهو تحرير جنوب إفريقيا من استعمار الأقلية البيضاء أو بما يسمي بنظام التمييز العنصري أو الآبار تايد... كانت هناك منافسة بين الحزبين وهي نفس المنافسة القائمة حاليا بين القيادة الفلسطينية في غزة والقيادة الفلسطينية في الضفة الغربية وحاولت خلال سنتين إقرار التصالح بين الحزبين حزبA.N.C وحزبP.A.C والحزب الأول هو حزب المؤتمر القومي الإفريقي وكان يرأسه مانديلا.. وكان أساس تدخلي أننا لا نستطيع أن نقاوم استعمار جنوب إفريقيا إلا من خلال جهة واحدة ولم أنجح وأتذكر إن كلا الحزبين كان لهما تمثيل بالقاهرة. فقال لي أحدهما.. السيارة الموجودة عندي قديمة وأرجو من وزارة الخارجية أن تعطينا سيارة جديدة.. فأرسلت خبيرا ليفحص السيارة ووجدناها قديمة ويجوز تقديم سيارة جديدة, فجاء ممثل الحزب الآخر يطالب بسيارة أيضا فقلت له سيارتك علي أحسن وجه وأنت لا تحتاج إلي تغييرها وهذه قصة تمثل مدي العداء بين حزب مانديلا والحزب الآخر. ودعيني أقول لك إنني عقدت اجتماع سري بزيمبابوي ولم أنجح في مصالحة الحزبين. وهكذا ارتبطت بمشاكل جنوب إفريقيا وكنت ايضا ملما بقضية نيلسون مانديلا وبدأت أحتضن قضية الإفراج عن الزعيم الإفريقي.. ودارت المباحثات في زيوريخ مع مندوب وزارة جنوب إفريقيا وعقدنا اجتماعا آخر في القاهرة اشترك فيه وفد من جنوب إفريقيا وأتيحت لي فرصة الاتصال ببيك بوتا وزير خارجية جنوب إفريقيا الأسبق وتدخلت من أجل الإفراج عن مانديلا وعندما تم اطلاق سراحه بالفعل زار القاهرة وطالب من الحكومة المصرية خمسة ملايين دولار من اجل الحملة الانتخابية للحزب ومع الأسف لم تستجب مصر لهذا الطلب علي الرغم من أن ليبيا والمغرب دفعا هذا المبلغ... وعندما طلب مانديلا زيارة الجمعية الإفريقية بشارع أحمد حشمت بالزمالك اصطحبته إلي هناك وذاع خبر زيارته للقاهرة قبل اعتقاله وقيل أن هدف الزيارة طلب مساعدة مصر. وفي الجمعية الإفريقية التف حوله آلاف الطلبة الأفارقة مما تسبب في مشكلة أمنية مرتبطة بخروج مانديلا من الجمعية وإن لم تحقق زيارته للقاهرة النجاح المطلوب فإن علاقاتي الشخصية به ظلت قوية وعندما تم الإفراج عنه اعترف بالدور الذي لعبته من أجل تحريره.. والدليل علي ذلك أنه قدم لي كل المساعدات لانتخابي كأمين عام للأمم المتحدة وحضر جلسة حلفي اليمين لهذا المنصب بنيويورك واتصالاتي للإفراج عن مانديلا بدأت خارج مصر في زيوريخ واستمرت في القاهرة. وخلال احتفالات ناميبيا بالاستقلال أجري الوفد المصري المرافق للرئيس مبارك اتصالات مع وفد جنوب إفريقيا وكانت شبه رسمية... وتوطدت علاقاتي بمانديلا واشتركت بصفتي أمين عام للأمم المتحدة في حفل تنصيبه كأول رئيس لجنوب إفريقيا إلي جانب حشد ضخم من رؤساء الدول ومع الأسف مصر لم تكن ممثلة إلا علي مستوي وزير... ومن ضمن الأخطاء التي ارتكبت في حق إفريقيا عدم اشتراك رئيس الدولة في الاحتفالات الخاصة بانتخاب مانديلا أول رئيس لجمهورية جنوب إفريقيا وكانت تلك الاحتفالات في بريتوريا.. وأضاف غالي:أنني أعتبر نيلسون مانديلا والاسقف ديزمون توتو قد أسسا فكرة جديدة هي التسامح فكانت سياسة مانديلا معتمدة علي أن الرحمة فوق العدل. ومنذ هذا التاريخ فتح مانديلا بابا لأسلوب جديد لتسوية المنازعات بالطرق السلمية وهو مبدأ من مباديء الأممالمتحدة من خلال التسامح بمعني أن ننسي الأخطاء التي ارتكبها كل من الجانبين ونحقق نوعا من المصالحة من خلال ما أطلق عليه دبلوماسية العفو أو المغفرة. ونيلسون مانديلا هو الذي أطلق أول مثل لهذا.. وبعد ذلك قمنا بتطبيق هذا الأسلوب في السلفادور وفي بعض دول أمريكا اللاتينية أو في موزمبيق. حكم عليه بالأشغال الشاقة علي مدي خمسة وعشرين عاما وأستطاع أن يتعاون مع الذين فرضوا عليه هذه العقوبات وهذا يدل علي حكمة هذه الشخصية الرائعة.. لقد استفدت من مواقف مانديلا وقدرته علي التسامح. ويضيف غالي لقد تحول مانديلا إلي صديق وأثناء حفلة تنصيبه كأول رئيس جمهورية دعاني بمنزله وكان بيتا متواضعا وتناولنا العشاء وحدنا. ومن المهم أن يكون الوفد الرسمي الذي سيشارك في جنازة هذا الزعيم علي أعلي مستوي تقديرا للدور التاريخي الذي لعبه مانديلا علي المستوي السياسي والوطني والإنساني ويكفي أن مانديلا والأسقف ديزمون توتو نجحا في تحرير جنوب إفريقيا دون حرب من خلال التفاوض ومن خلال التسامح المتبادل ودعيني أقول أن كلا من مانديلا وديكليرك قد نجحا في إيجاد تسوية سلمية لنظام ايدناور مثلما نجح ديجول وديناور في تحقيق تصالح حقيقي بين فرنسا وألمانيا علي الرغم من أنه كانت هناك ثلاثة حروب دامية1870 1914 1939 بين فرنسا وألمانيا وآلاف الذين قتلوا ومن خلال شخصية ديجول وايدناور تم بناء الصلح بين فرنسا وألمانيا. مثلما نجح مانديلا وديكليرك في إنهاء التفرقة العنصرية بجنوب إفريقيا بطريقة سلمية.. ومانديلا إذن من أهم زعماء القرن العشرين وليس في إفريقيا فقط.. ولكن في مختلف أنحاء العالم... وهناك إجماع دولي علي شخصية مانديلا الذي تحمل الأعمال الشاقة لمدة25 عاما ومع ذلك تصالح مع الذين فرضوا عليه هذه العقوبات.. ولقد كان شجاعا إلي أقصي الحدود. وإذا أردت أن أقول من هو مانديلا فسوف أقول إنه رمز للتسامح.. واهتماماته كانت منصبة علي جنوب إفريقيا واستطاع أن يحقق رسالته في وطنه وكان من أهم صفاته التواضع وعندما أصبح رئيسا للجمهورية قام بتكثيف اتصالاته مع قيادات العالم الذين أحبوه حبا شديدا.. وأهمية التمثيل المصري الرسمي في جنازته تكمن في تجسيد تكريم مصر للمناضل الإفريقي مانديلا كما سوف يساهم في دعم العلاقات بين مصر وجنوب إفريقيا.