يحكي أن الامبراطور الفرنسي نابليون بونابرت كان يتفقد قوات احدي الدول المحتلة التي لا يجيد بعض أفرادها اللغة الفرنسية- إلا أن قيادة هذه القوات لقنت الجنود إجابة ثلاثة أسئلة كان الامبراطور يداوم علي سؤالها للجنود- وقد ارتبك أحد الجنود عندما وجد نفسه وجها لوجه أمام هذا الامبراطور العظيم فخلط بين إجابات السؤالين الأولين وهنا صاح الامبراطور: إما أن تكون أنت مجنونا أو أكون أنا المجنون فرد الجندي علي الفور: الاثنان معا يا سيدي- وهو رد السؤال الثالث كما رتبه له ملقنوه. تذكرت هذه الطرفة وأنا أفكر في محاولة اثيوبيا الجمع بين جميع عناصر التنمية وبشكل متسارع وهي في ذلك تظن أنها ستخدع من تستطيع أن تخدع وتفرض علي الأرض حقائق علي الجميع أن يرضي بها ويذعن لرغباتها- هذا علي الرغم من أن صوت الحكمة وحكمة الضمير وإعمال العقل قد تكون كلها علي خلاف ما تفعل هذه البلاد وعلي خلاف ما تصبو إليه. أبدأ بالقول إن البداية التي ظهر بها سد النهضة الاثيوبي العظيم علي السطح كانت في اليوم الأول من شهر أبريل2011- وبعد قيام ثورة يناير المصرية بأسابيع قليلة عندما أعلن رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي عن البدء في تنفيذ هذا السد الذي كان مطروحا علي الساحة منذ عام1963 تحت مسمي مختلف هو سد الحدود نظرا لوقوعه علي بعد كيلومترات قليلة من الحدود السودانية وفي منطقة هي في الأصل سودانية وتقطنها قبيلة بني مشفول السودانية الأصل العربية اللغة. إلا أن رئيس الوزراء زيناوي غير موقع السد ليبتعد به قليلا عن الحدود المهم هنا أن هذا التغيير الجوهري في أبعاد السد لم يضف الكثير إلي قدرة السد علي توليد الطاقة الكهربائية ولكنه زاد- وبامتياز- من إمكانية استخدام مياه البحيرة للأنشطة الزراعية وأيضا زاد- وبامتياز- قدرة اثيوبيا علي التحكم فيما يصل إلي مصر والسودان من المياه. لاحظ المصريون أن توقيت البدء في إنشاء سد النهضة وتغيير أبعاده وأبعاد الخزان أمامه كان يشتم فيه رائحة الانتهازية والرغبة في الايذاء وأكد ذلك تصريحات رئيس الوزراء زيناوي الذي لم يترك مناسبة إلا وحرص علي توجيه النقد إلي مصر والمصريين الذين أقاموا حضارتهم علي مياه هي ليست في الحقيقة لهم لأن أمطارها هطلت علي مرتفعات تسكنها الشعوب الاثيوبية الفقيرة المعدمة التي يسودها العطش والمجاعات والفاقة والأمراض بينما يتنعم المصريون بالرفاهية والرخاء والسعادة والنماء. إذن الموضوع ليس فقط لرفع الفقر عن الشعوب الاثيوبية, ولكنه في الوقت نفسه لاعادة الشعب المصري إلي الفقر والفاقة والمعاناة لأن الجميع يعلمون أنها في حاجة إلي كل متر مكعب من مياه النيل, وأن الحصة التي تحصل عليها في الوقت الحاضر تقل بكثير عن احتياجاتها الفعلية وأنها تتغلب علي هذا العجز الكبير في الميزان المائي باعادة استخدام كميات هائلة من المياه تصل إلي حد أن سكان الثلث الشمالي من دلتا نهر النيل والذين لا يقل عددهم عن عشرة ملايين نسمة لا يستخدمون إلا المياه رديئة النوعية التي تكرر استخدامها مرة ومرات. إذن فإن مصر تتوقع أن تحدث الكارثة إذا استخدمت اثيوبيا الماء لتوليد الطاقة الكهربائية فحسب أما إذا تم استخدام الخزان المائي أمام السد للزراعة فإن الفاقد فيها لا يمكن أن يقل عن50% يتجه معظمها إلي السماء فيما يسمي بالبخر من الأسطح المائية الحرة والبخر نتح من المساحات المنزرعة ويضيع الجزء الآخر بالرشح والتسرب إلي باطن التربة ويعني ذلك بالضرورة تحويل الكارثة المفردة إلي عدد غير محدود من الكوارث وهنا أود أن ألفت انتباه القارئ الكريم إلي أن اثيوبيا لا تعرض عشرات ولا مئات ولا آلاف الأفدنة للبيع ولكنها تعرض أربعة ملايين فدان كاملة للمستثمرين من مختلف بقاع العالم. من هنا فإن استخدام السد لتوليد الطاقة والزراعة يحكم علي ما يسري خلف السد ويصل إلي مصر والسودان بالانكماش والاضمحلال فإذا أضيف إلي ذلك إمكانية التحكم في ما يصرف من المياه بحيث يكون ذلك أداة لتسييس الماء واستخدامه لأغراض التنكيد علي دول الجوار فإن هذه ولا شك تكون قمة المأساة وبداية المصائب والكوارث والنوازل. أقول هذا والجميع يعلم أن في جراب الحاوي المزيد الذي يتمثل في حزمة أخري من السدود وهي كارادوبي وماندايا وبيكوأبو والتي لو ترك الحبل علي الغارب للتصرف فيها وانشائها فإننا سننتهي إلي وضع قد لا يكون محتملا ولا مستطاعا بل ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تتعايش معه مصر وشعبها وقيادتها. أرجو أن يفطن الجميع إلي أن عدم اتخاذ مصر خطوات جادة وحاسمة في هذه القضية لا يعني انشغالها بثورتها ولا يعني قلة حيلتها وقدرتها ولا يعني عجزها أو كسلها إنما السبب الحقيقي هو أن مترا مكعبا واحدا من الماء لم ينتقص من حصتها حتي الآن, أما إذا حدث ذلك في المستقبل القريب أو البعيد فإن الحديث سيكون مختلفا وربما لا ينتهي الأمر بأن يكون الحل هو الحل الأمثل لجميع الأطراف. لمزيد من مقالات د. ضياء الدين القوصي