لايزال هذا الكاتب المسرحي الموهوب لغزا.. ولاتزال مسرحياته الغامضة, التي لا تفصح عن أي معني, وتشيع التشاؤم, شاهدا علي خيبة الأمل التي أفرختها الصدمة المروعة للحرب العالمية الثانية الهوجاء والمدمرة. لقد طغت خيبات تلك الحرب الحمقاء علي حياة صمويل بيكيت الفكرية, واستنزفتها, وأفرغتها من المعني والقصد, وتصور في غمار يأسه وبؤسه أن العالم بكل ما فيه لا يعدو كونه ساحة عبثية. واستسلم بيكيت استسلاما موحشا لهذه الهواجس العتمة, وأطفأ قنديل الأمل, وهو يجوس وحيدا في سراديبها حالكة الظلمات, وربما وجد العزاء والسلوي في مجرد الانتظار علي حافة النهاية الكونية, دون أمل أو رجاء. وكانت مسرحيته الأولي التي اقترنت باسمه اقترانا شديدا هي في انتظار جودو, وهي تعبر عن رؤيته العبثية, وتنعي بمداد كلماتها, أو بالأحري ثرثرتها, مصير الإنسان, ولا تمد له يد العون, ولا تحفل بأن تقيله من عثراته, ولا تهتم بأن تضيء دروبا جديدة للأمل. فقد كان بطلاها في غمرة يأسهما أن جودو لن يأتي, لكنهما كانا ينتظران من لا يأتي. وبرغم عبثية أفكار بيكيت وعتمة رؤيته, فاز بجائزة نوبل للأدب عام1969, ولم يفسر فوزه لغز كتاباته. ولعل نشر المجلد الثاني من رسائل صامويل بيكيت التي كتبها في الفترة من1941 وحتي1956 قد أسهم في محاولة لتفسير لغز الكاتب المسرحي, ومن هنا تأتي أهمية هذه الرسائل. واللافت للانتباه أن بيكيت كتب, في خلال ستين عاما, أكثر من خمس عشرة ألف رسالة, وتم نشر الجزء الأول منها عام.2009 ويكشف الجزء الثاني, الذي نشر أخيرا, عن حياة الكاتب إبان الحرب العالمية الثانية, خاصة الغزو الألماني النازي لباريس حيث كان يعيش بيكيت. ففي12 يونيو1940, أي قبل يومين من غزو القوات النازية لباريس, غادر بيكيت مع صديقته سوزان العاصمة إلي مدينة فيشي, ثم إلي أركاكون, وهناك عاشا نحو ثلاثة أشهر. وفي منتصف سبتمبر قرر العودة إلي شقته بباريس, وانضم إلي المقاومة السرية الفرنسية ضد الاحتلال النازي, غير أن جاسوسا ألمانيا نازيا تمكن من كشف مجموعة المقاومة التي كان ينتمي بيكيت إليها, ومن ثم هرب مع سوزان في22 سبتمبر1942 من باريس إلي منطقة نائية, وعاشا هناك حتي تم تحرير فرنسا من الغزو النازي في25 أغسطس.1944 لكن الحياة في باريس إبان سنوات ما بعد الحرب, لم تكن سهلة, ولا ميسورة بالنسبة لبيكيت, فقد كان يعاني وطأة العوز, وشدة الفقر, كما أن حالة الصخب التي عمت العاصمة فاقمت من شعوره بالقلق, ولم يجد مهربا سوي بأن يرحل من باريس للإقامة في قرية نائية, وكان يكتب في أثناء النهار, ويقضي فترة المساء في المشي بصحبة سوزان. وانفرجت أساريره إلا قليلا عندما ورث مبلغا من المال عقب موت أمه عام1950, وتمكن من نشر ثلاثيته الروائية: موللي(1951), ومالون يحتضر(1951), وبلا اسم(1953). {{{ غير أن الحدث الأدبي المهم في مسيرة بيكيت كان عرض مسرحيته الأولي في انتظار جودو عام1953, وبرغم ما أثارته من جدل بسبب غموضها وعبثيتها, فإنها حققت له الشهرة, فقد جري عرضها في وقت كان فيه أدب اللامعقول, ومسرح العبث مزدهرا في فرنسا, وكان كوكبة من الكتاب والمثقفين يتبارون في كتابة مسرحيات عبثية منهم يوجين يونسكو, وآرثر أداموف. والمثير للدهشة أن في انتظار جودو صارت عنوانا صاخبا ومثيرا للجدل لمسرح العبث أو اللامعقول, ولم يستغرق بيكيت في كتابتها سوي نحو أربعة أشهر, من أكتوبر1948 حتي يناير.1949 ولعل الظروف التي أحاطت بالكاتب في الفترة التي سبقت تأليفه لهذه المسرحية تشير إلي المؤثرات الفنية والفكرية التي دفعته دفعا إلي كتابتها. وهنا تكشف رسائله عن أن الشخصية المحورية في حياة بيكيت في تلك الفترة, كانت الناقد الفني والخبير في الفن التشيكي جورج ووثويت, وكان صديقا حميما للكاتب, وخصه بالعديد من رسائله. وكان جورج قد أفسح المجال للكاتب ليعمل معه في صحيفة كان يصدرها, وكلف بيكيت بترجمة مقالات من الفرنسية إلي الإنجليزية. وتشير الرسائل إلي أن بيكيت لم يعتبر نفسه ناقدا أدبيا أو فنيا, برغم نشره دراسة عن الروائي الفرنسي الشهير مارسيل بروست مؤلف البحث عن الزمن الضائع, كما كان يكتب مقالات يطرح فيها رؤيته الثقافية. وفي تلك الفترة, اقترب بيكيت اقترابا شديدا من فنان تشيكي هولندي هو برام فان فيلد, ذلك أنه كان يعيش في فرنسا, وأعرب بيكيت عن إعجابه بفنه, واعتبره أول فنان تجريدي لا يحفل بالشكل الفني ولا مضمونه. وأفضي تأثر بيكيت هذا إلي إعلان رغبته العارمة في التخلص من التعبير عن أي معني. وهو ما تجلي في انتظار جودو. لا تعبير عن أي مضمون, وإنما ثرثرة عبثية لشخصيات سقيمة وعقيمة, تنتظر بلا حراك خارج الزمان والمكان. ولم تكن في انتظار جودو مسرحيته الوحيدة, وإنما كتب مسرحيات أخري تصور عالما أكثر يأسا وأحلك في عتمته, ومنها اللعبة(1957), وأيام سعيدة(1962). {{{ وما يمكن قوله الآن إن نهاية اللعبة العبثية كانت حقا أياما سعيدة, فقد تقوض مسرح العبث واللامعقول تحت أنقاض سور برلين إبان ثورة التحولات الديمقراطية والسياسية الكبري التي اجتاحت أوروبا الشرقية عام1989, وأدت إلي انهيار النظم الشمولية والاستبدادية, وفتحت الآفاق أمام أوضاع اجتماعية أكثر عدلا اجتماعيا, وأكثر رشدا سياسيا, وهو ما يسهم إسهاما كبيرا في عودة الإنسان من زمن اغترابه ويأسه. واللافت للانتباه أن صامويل بيكيت شهد هذه الثورات, وكان يعرب عن تأييده لحركة تضامن في بولندا. وفي ذاك العام التاريخي لفظ بيكيت أنفاسه الأخيرة في22 سبتمبر.1989 ولفظ مسرح العبث أنفاسه الأخيرة كذلك. المزيد من أعمدة محمد عيسي الشرقاوي