رغم نشأته منذ أكثر من سبعين عاما ظل مسرح العبث أكثر الأشكال الدرامية إثارة للجدل, فالتجربة فريدة حقا بل إنها مع تطورها وميلادها الفعلي في خمسينيات القرن الماضي قد أذهلت العالم لما تمثله من ثورة علي كل القوالب التقليدية للمسرح. ودراما العبث ألهمت بحق عشرات الأدباء وكتاب المسرح في دول العالم المختلفة ومنها مصر, حيث أسهمت في تغيير تقنيات كتاباتهم وحفزت ذهن القاريء والمشاهد لتقبل اشكال فنية جديدة تماما تدفعه للتفكير بعمق في قضاياه المعاصرة. ولايمكن ذكر مسرح العبث الا وتقترن به أسماء نجومه العمالقة من أمثال صمويل بيكيت ويوجين يونيسكو وهارولدبنتر وغيرهم من كتاب المسرح الذين اشتركوا في فكرة أن الانسان يقطن في هذا الكون دون أن تكون المفاتيح بحوزته, فوجوده- كما يرون- بلا هدف, وهو في نفس الوقت وجود مهدد. وقد تأثر مسرح العبث بقوة بما مرت به الشعوب الغربية من فزع وخوف جراء الحرب العالمية الثانية حيث زرعت آلات القتل التي حصدت ملايين البشر خلال هذه الحرب داخل شعوب أوروبا موجة عاتية من زعزعة القيم واحساسا عميقا بأن الوجود الانساني عبث لا معني له. بيكيت..الميلاد الحقيقي واذا كان مسرح العبث قد بدأ في ثلاثينات القرن العشرين فان شهرته الواسعة قد جاءت علي يد صمويل بيكيت الفائز بجائزة نوبل عام1969 حيث يعده النقاد الرائد الحقيقي لدراما العبث, وخاصة عقب ظهور مسرحيته الشهيرة في انتظار جودو التي قدمت لأول مرة في باريس عام1953, وسرعان ما اجتاحت العالم وعرضت في مختلف انحائه. وتدرس في أغلب اكاديميات وكليات الفنون كنموذج كلاكسيكي لمسرح العبث. وقد كان بيكيت يكتب بالفرنسية والانجليزية معا اللتين اجادهما بنفس الدرجة. وقد ألف العديد من الروايات, إلا أن مسرحياته هي التي أكسبته شهرة عالمية. وكانت قضيتها الأساسية تصوير اللامعقول والعبث في حياه الانسان, وإدانة الحضارة الغربية, ويشترك بيكيت ويونيسكو في خلط العبث بالطابع الهزلي الضاحك الذي يحمل في طياته فكرا وجوديا عميقا مؤداه أن الانسان بعيد عن الانسجام والتوافق مع نفسه ومع الآخرين ومع الكون ذاته وفاقد للقدرة علي الاتصال والتواصل. ورغم قدم فكرة العبث في التجربة الانسانية والفلسفية إلا أن رواية سارتر الغثيان التي نشرت عام1938 كانت أول ظهور لأدب العبث, فهو يطرح من خلالها, بسردية غرائبية يتداخل فيها الحلم مع الواقع والواقع مع المستحيل, اشكالية عدم قدرة العقل علي تفسير الوجود, ويتلاقي الفكر الوجودي مع مدرسة العبث في كونهما يتفقان علي أن الانسان ضائع, ولكنهما يختلفان في أن الوجودية تري أن الإنسان قادر علي الفعل باختيار مصيره, وتحمل مسئولية هذا الاختيار, بينما العبث لا يري إلا العبث. نعود الي مسرحية بيكبت الأشهر في انتظار جودو التي تدور أحداثها في مكان محدود جدا بجوار شجرة, التي هي الديكور الوحيد علي خشبة المسرح, حيث ينتظر شخصان قدوم السيد جودو, ولكنه لايأتي, ولذلك تساءل النقاد.. من هو؟ ومتي سيصل؟ وماذا سيفعل أو يقدم؟.. وجودو لن يصل فهو كما يراه بيكبت رمزا للمطلق الذي لن يأتي أبدا. وفي تطور فريد في دنيا المسرح جاء مسرح العبث متحررا تماما من البناء التقليدي الذي يتمثل في البداية والعقدة والحل, ففي مسرح العبث تتعدد العقد, لكنه لا يقدم لها حلا.. فالصراع بلا بداية ولا نهاية وسط فراغ زمني, فلا يوجد إحساس بالزمن, وتتسم اللغة في مسرح العبث بأنها تعطي للمشاهد حافزا للدهشة أو الاعجاب, بل وتقوده بالفعل إلي التفكير العميق, فالمسرح العبثي يشهد هجوما ضاريا علي اللغة التقليدية ويظهرها علي إنها آداة لا يمكن الاعتماد عليها, وأنها غير كافية لاستخدامها كوسيلة من وسائل الاتصال, حيث تستخدم دراما العبث لغة مشوشة, ويقدم اللغة الاصطلاحية بوصفها تعمل كحاجز بين الذات وبين الحقيقة. والحوار أقرب إلي المونولوج الداخلي, وهو مبتور وغامض ومبهم, حيث لا تواصل بين شخصياته, ويمكن القول إن اللغة في مسرح العبث هي تأكيد علي الفشل والعجز عن التواصل الإنساني. التجربة المصرية ولكونها الجسر الحضاري والثقافي بين الغرب والعالم العربي لعبت مصر دورا رائدا في تعريف القارئ والمشاهد العربي بمسرح العبث من خلال الأعمال المتميزة لنخبة من الأدباء والشعراء الكبار كصلاح عبد الصبور في مسرحية مسافر ليل التي نشرت عام1969, و تحت المظلة لنجيب محفوظ وصدرت عام1969 إلا أن مسرحية ياطالع الشجرة لتوفيق الحكيم والتي صدرت عام1962 تحتل مكانا بارزا حيث تعد بمثابة محاولة كبيرة بل وعظيمة لتقريب المسرح العبثي للقارئ العربي. وشخصيات المسرحية الزوج والزوجة يتحاوران وكل منهما يتحدث علي هواه وفي اتجاه مخالف للآخر, فالزوج مهتم بشجرته وسحليته المدفونة تحتها, والزوجة تتحدث عن الإنجاب, كما تتسم الشخصيات بالنمطية, والشعور بالعزلة والاغتراب, وخلو حياتهما من الهدف, وفي النهاية فالمسرحية تعكس الفكرة الرئيسية للعبث, فالحياة وفقا لهذا المفهوم عبثية وزائلة, ولا يوجد شئ في الكون باق علي الاطلاق وتمثل ذلك في اختفاء جثة الزوجة بعد قتلها, وموت السحلية بلا مبرر. .. والآن.. وبعد مرور أكثر من70 عاما علي نشأة مسرح العبث فإننا أحوج ما نكون الي استلهام هذه التجربة المتميزة للتحفيز علي أشكال جديدة من الدراما الإنسانية تجدد الأدب بكل روافده, وتضخ في شرايينه دماء جديدة من الابتكار والابداع الإدبي