يتلقي الوطن الطعنات الدموية الإرهابية الغادرة وللمرة الاولي في تاريخه من جماعة تنتمي إلي الإسلام السياسي, بعد أن قوض ملايين المصريين الأوفياء حكمها الغاشم عبر سنة لم تر مصر مثيلا لها. هناك أسئلة بحاجة للإجابة عنها لمواجهة هذه الظاهرة التي تهدد مستقبل مصر ذاته. الأسئلة والإجوبة هنا تعني إعادة الغوص بموضوعية علمية وأمانة وطنية في مسألة تاريخ وواقع صناعة الإرهاب والإقرار بحقيقة منابعه ووجوهه المتعددة وأهدافه المرحلية والإستراتيجية, في مصر والعالم, وكيف تعاملنا معه عبر أكثر من أربعين عاما, علي وجه خاص. أقول هذا, وكأن المصريين لم يفعلوا ذلك قبلا. لكن المشكلة أن كم الدراسات الميدانية والحلول العملية التي طرحها باحثون ومفكرون ومثقفون مصريون وأجانب, لم تجد سبيلها نحو التطبيق عند صناع القرار عبر السنين, بل الأخطر من ذلك أن هناك من مؤسسات الدولة من تواطأت في صناعة التطرف, لحسابات سياسية, وفي أحيان أخري لم تر في التطرف الديني إلا صحوة استغلها فرقاء سياسيون لدغدغة أحاسيس الفقراء ورجل الشارع; وربح من ورائها تجار الدين وشيوخ السلطان. الأمر الذي أبقي علي الحكم الا ستبدادي من جهة, ومنح الفرصة لسيطرة تيار الإسلام السياسي علي الفضاء المجتمعي وتمكنه من السيطرة علي العديد من مفاصل الدولة, وخاصة في مجالي الثقافة والتعليم. في مصر بدأ التطرف الديني المسيس وبدأت معه ما اصطلحت عليه كل مؤسسات الدولة التشريعية والرئاسية والثقافية والدينية بمسألة الفتنة الطائفية, وهو اصطلاح مراوغ ولا معني له في الواقع القانوني, في حين ان تلك الاعتداءات الغاشمة لم تكن إلا أحد تجليات الإرهاب الديني في بواكيره, كما لم تكن إلا جرائم ضد الوطن ككيان قومي, فخلخلته, وضد المواطنين, ففرقتهم علي أساس ديني بغيض. ومع كل ذلك لم تتخذ الدولة إية إجراءات عملية لمواجهة هذه الظاهرةالخطيرة, بل علي العكس استمرت في تجاهلها تشريعيا وقانونيا وثقافيا وتعليميا, واكتفي الجميع بالشجب والإدانة, والتغني بالوحدة الوطنية والتوعد بالضرب بيد من حديد علي مثيري الفتن الطائفية تلك! استمر هذا الوضع لسنوات وتزايد ليطاول رأس الدولة, الرئيس أنور السادات نفسه, عام1981, ثم بعد ذلك قوات الأمن في بعض مدن الصعيد, وتصاعدت الاعتداءات الجماعية علي المواطنين الأقباط في أنحاء شتي من البلاد حتي أواخر التسعينيات, حيث شهدت البلاد مجزرة مدينة الأقصر في17 من نوفمبر1997 والتي قتل فيها أثنان وستون سائحا. وجاء رد الدولة وكأنها المجزرة الأولي البشعة التي اقترفتها جماعات الإسلام السياسي في مصر, إذ تحركت القيادة المصرية بسرعة غير مسبوقة لاحتواء آثار هذه الجريمة قبل ان تجف دماء الضحايا. وتزامن تحرك القيادة المصرية ممثلة في شخص الرئيس مبارك مع تحرك أجهزة الأمن, ليس فقط للكشف عن فلول المتورطين في هذه المذبحة والقبض عليهم, بل لوضع خطط أمنية جديدة ومحاكمة بعض كبار رجال الأمن الذين فشلوا في توفير الحماية لهؤلاء الزوار. هذا في الوقت الذي قام فيه كل من مجلسي الشعب والشوري بفتح ملف الإرهاب بعد أن كان قد وضع جانبا لبضع سنوات. كما عقدت الأحزاب المصرية مؤتمرا كانت قضية مواجهة الإرهاب من ضمن أهم بنوده. وتوالت ردود الفعل لتتحرك الأجهزة الدينية الرسمية ممثلة في مشيخة الأزهر ووزارة الأوقاف ودار الإفتاء لتعلن جميعها عن خططها في توعية الشباب بطبيعة الإسلام السمح وتطهير المساجد من الدعاة المتطرفين أو المنتمين الي جماعات العنف. كما عقد بعض المسئولين بالجامعات المصرية مؤتمرا أو أكثر لشجب الجريمة وتدارس الظاهرة. ولا شك أن كل هذه الإجراءات الإيجابية, ومنها ما لم يتخذ إثر مذابح وحوادث سابقة ولاحقة طالت مصريين وأجانب, كانت إجراءات ضرورية ومهمة قوبلت بارتياح وتقدير مصري وعالمي. ولكن الملاحظ انها مثل غيرها ما اتخذ في الماضي عقب أحداث مشابهة ولا تقل خطورة لم تصل الي جذور ظاهرة الإرهاب السياسي الذي اتخذ الدين الإسلامي وعاء له. لذلك استمر العنف, و ازدادت شراسته. غني عن البيان أن ربط الإرهاب بالدين لايعني أن الإسلام في جوهره ومبادئه العامة يحرض علي العنف, إنما المقصود هو التخريجات والتفسيرات الفقهية السلفية التاريخية التي أسست عليها تلك الجماعات السياسية فلسفتها وحركتها. وهو خلط خطير يتعارض مع روح العصر ويشكل تحديا خطيرا يهدد المجتمعات العربية والإسلامية قاطبة من داخلها. وهذا ما نشاهده الآن في كل المنطقة العربية وفي بلاد إفريقية وأسيوية أصبحت تكتوي بنار الحروب الأهلية الطائفية والدينية, في صراع متكالب علي السلطة خارج الإطار السلمي الذي تكفله الآلية الديمقراطية والحاضنة للتعددية السياسية والثقافية بكل أبعادها. وإن كان للإرهاب أبعاد دولية, ومصادر أخري تستلزم تكاتف أعضاء المجتمع الدولي, إلا أنه يجب- أولا- علي العالمين العربي والإسلامي اللذين يكتويان بنار الإرهاب أكثر من غيرهما أن يواجها الواقع بشجاعة, ويتحملا المسئولية لاستئصال هذا الخطر من جذوره علي المستويين القومي والإقليمي. مصر اليوم, في مفترق الحرج بكل ملابساته السياسية التي تواجه المنطقة العربية التي تتنازعها قوي الإرهاب والعنف والتقسيم من الداخل قبل الخارج, وقد تكون هناك تحديات اقتصادية تواجهها, وتشكل هذه التحديات أحد روافد الإرهاب. لكن يجب ألا نخدع أنفسنا, فمصر علي مدي تاريخها مرت بفترات عاني فيها أغلب شعبها الفقر والحرمان, لكننا لم نشهد من بنيها من خرج عنها بهذه الصورة الدموية ليقتل أبرياء ويدمر عمران وحضارة ومستقبل أمة من أجل السلطة وأوهام رجعية ماضوية. علينا أن نواجه الحقيقة, ونقر بأن الطوفان الإرهابي من صنع أيدينا في الأساس. فلقد اختلطت العناصر المكونة للصورة الذاتية التاريخية فانطمست الخطوط الفاصلة بين التدين بسموه وإنفتاحه علي الآخر للانطلاق نحو الحياة في عالم أفضل واحد ومتسامح, لحساب عالم التطرف والانغلاق علي الذات, ومن ثم الهروب من الواقع والمستقبل. وهكذا اسهمت الأنظمة الحاكمة ومؤسساتها السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية في ضياع أجيال عاشت بغير بوصلة وطنية حضارية ورؤية إنسانية منفتحة نحتاج إليها لبناء مصر الجديدة في عصر العولمة. إن مصر, وغيرها من البلاد العربية والإسلامية, التي تمر بهذا المأزق الثقافي الحضاري في الأساس تحتاج الي تجديد العقل لمواجهة الماضوية التي تهيمن علي الثقافة بوجهها العام والنخبوي, وإن هذا التجديد لايمكن إن يتم إلا بتغيير الوعاء الثقافي للأمة كلها بوعاء آخر تكون فيه حقوق الإنسان علي سعتها, والديمقراطية بعمقها وأصالتها هي الحاكم والطريق والبوصلة والمعيار. حينئذ فقط يفقد الإرهاب أرضيته ومجال حركته, وحينئذ فقط نحمي الدين ونحمي الوطن. لمزيد من مقالات نبيل عبد الملك