اعتقد أنه لا يمكن لعاقل أن يقرن الدين بالعنف إلا إذا كان من ضعاف النفوس ومرضي العقول وعبيد السلطة والنفوذ. العنف الديني كما يبعدنا عن صحيح الدين يبعدنا بنفس الدرجة عن مجال الأخلاق, والدين في حقيقة أمره رسالة أخلاقية, وما كان أبدا تقنية سياسية تستهدف التسلط والجبروت, ومن المستحيل أن يقترن الدين بالعنف, إلا إذا وحدنا بينهما وبين السياسة, ورفعنا من شأن السياسة وجعلنا لها الأولوية علي الدين ذاته, ففي مملكة السياسة قد يكون كل شيء مباح ومسموح به حتي لو تعارض مع الدين, من قتل وغدر وخيانة وبطش ونفاق وكذب وصفقات مشبوهة ومعاملات قذرة وتحالفات مستترة, وهكذا يسخر الدين في خدمة لا أخلاقيات السياسة. ولما كانت القيمة الحقيقية لأي مفكر لا تتحدد بكتابات يكتبها بقدر ما تتحدد بدلالات مواقف يشتبك فيها كل حرف يخطه بحياتنا الواقعية, أدركنا إلي أي حد تنبه توفيق الطويل(1909-1991) إلي مسئولية المفكر في مواجهة الأخطار التي تواجه مجتمعه, سواء في الفترة التي كتب فيها ماكتب أو الفترة اللاحقة لها. فعلي الرغم من مكانته العلمية المرموقة كصاحب أول دراسة عربية متكاملة في فلسفة الأخلاق صدرت عام1960 بالإضافة إلي دراساته الأخري في الفلسفة الإسلامية والتصوف وتراث العلم العربي, لكن ما تناوله في كتابيه' قصة الصراع بين الدين والفلسفة'' وقصة الإضطهاد الديني بين المسيحية والإسلام' يستحق أن نتوقف عنده. ففي الكتاب الأول تعقب بعض مظاهر الاضطهاد وصور القمع وصنوف الأذي التي لحقت بأحرار الفكر من قبل المتزمتين من رجال الدين, وأهدي كتابه الثاني إلي الشيخ مصطفي عبد الرازق لمزواجته بين الإيمان والتسامح مستهلا مقدمته بقوله' هذا كتاب يحكي في نطاقه الضيق سيرة فكرية آثمة, ترف بها قلوب تغلي حقدا وتضطرم تعصبا, فتوغل في ارتكاب الإثم وتحمل الدين وزر ما تريق من دماء بريئة وما تجتاح من مبادئ إنسانية كريمة, ومضي بعد ذلك في كشفه محاولة الاضطهاد الديني تأكيد سلطانه في إحلال دين مكان دين آخر بالعنف والإرغام. ومنذ البداية حرص الطويل علي تبرئة كل الأديان من تبعات الاضطهاد, فالأصل في الأديان أنها رسالة الحب إلي النزاعين إلي الحقد والبغضاء ودعوة السلام إلي التواقين للقتال الراغبين في إراقة الدماء, وفي ضوء تنديده بكل تعصب مقيت كان رفضه لمفهوم الثورة الدينية, فالإنسان الوديع يتحول خلالها إلي حيوان مفترس يلذ بارتكاب ما كان يفزع من مجرد تصوره, ففي الثورات الدينية يستعلي الجانب الحيواني في نفوس البشر, وترتفع الزواجر التي أقامها ويبدو الإنسان وحشا ضاريا, ومن هنا كانت مذابح الاضطهادات الدينية وفظائع حروبها أمرا مألوفا. وفي مقابل كل صور التعصب والاضطهاد وكل مظاهر العنف في الثورات الدينية, انحاز الطويل لرواد الإصلاح الديني مؤكدا رفضه لكل صور الاضطهاد الديني, فالاضطهاد عدوان علي حرية الضمير ومناقض للنواميس الأخلاقية, والقول بأن الإسلام قد انتشر بالسيف كما ذهب البعض هو قول ينطوي علي بهتان عظيم, فما دعا الإسلام للقتال إلا ردا لفتنة المؤمنين عن دينهم. لأن الفتنة أكثر من القتل وقد نزل القرآن الكريم داعيا للحب مبشرا بالتسامح منفرا من إكراه الناس علي اعتناق الإسلام استنادا إلي قوله تعالي:' لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي', فليس لأحد من رجال الدين علي أحد من سلطان, بل ليس رسول الله إلا مجرد مذكر ومبلغ' فذكر إنما أنت مذكر, لست عليهم بمسيطر' ولا بد من التفرقة بين الدين في ذاته وبين الفكر الديني, فالاضطهاد الديني لرجال الفكر والعلم كان مرده دائما إلي التأويل المتعسف للنصوص الدينية وليس إلي الدين السمح. ومن ثم أكد الطويل رفضه منذ البداية لكل سلطان دنيوي لرجال الدين, فمن حق رجال الدين علي حد قوله أن يكون لهم سلطان روحي واسع النطاق, أما أن يتهيأ للمتشددين منهم سلطان دنيوي يمكنهم من التحكم في رقاب الناس فذلك هو الخطر المبين الذي يشهد به استقراء تاريخ الفكر علي مر العصور. وما من فرصة أتاحت لهم السلطان إلا فرضوا فيها رقابتهم الجائرة علي مخالفيهم في الرأي ومن كانوا أحرار الفكر وأوقفوا تقدم المعرفة وعرقلوا نشاط العقل وأعاقوا حرية النظر وأوصدوا أبواب الإبداع في التفكير فجمدت الحياة وتوقف التقدم, لأن التعصب المقيت يبعد صاحبه عن نور الإيمان الصحيح ويرده إلي أحط مراتب البهيمية, ويهوي به إلي حضيض الوحشية. ولم يكتف الطويل بذلك بل تتبع تاريخيا العديد من الاضطهادات الدامية الآثمة التي شنها رجال الدين من منطلق تأويلهم المتعسف له, مزاوجا بذلك بين الحس التاريخي والحس الفلسفي الأخلاقي. حقا إن الشعوب لا تحيا بغير دين تعتنقه, وفي صميم الدين أي دين ثقافة لا غني للشعب الذين يدين به, لكن الجوهر الأخلاقي للدين لا علاقة له من بعيد أو قريب بالعنف والاضطهاد والتعصب والتزمت, ولا علاقة له بشوائب وتوجهات ومناورات ولا أخلاقيات السياسة وأحزابها. لمزيد من مقالات د . مجدى الجزيرى