اعتدنا منذ قرون أن نردد عبارة الإنسان حيوان عاقل; أي أن الجوهر المميز للإنسان هو العقل أو الفكر أواللغة. وجرفنا هذا الفهم إلي الشكل الظاهري دون تحليل للنشوء التطوري للعقل; وارتباطه الوثيق بالفعل المجتمعي, الذي هو أيضا له نشوءه التاريخي التكويني. ونجد أن بعض المجتمعات أقرت ثنائية الفعل/ الفكر; بينما أخري, ونحن منهم, اعتمدنا اللغة/ الكلام أو البلاغة خاصيتنا المميزة علي المجتمعات الأخري. وساد قديما تقسيم الناس إلي قسمين:' العاملون بالمخ/ الفكر وهم النخبة; والعاملون اليدويون وهم العامة والمسحوقون أو المنبوذون.. وسادت ثقافة تعظيم الفكر واحتقار الفعل والعمل كأن لا علاقة بين الإثنين. وحيث أن اللغة هي تجل لفكر الإنسان/ المجتمع في عصوره الحضارية المختلفة فإننا لا نجد في اللغة كلمة واحدة تعبر عن الوحدة التكاملية بين الفعل والفكر في المجتمع الإنساني... إذ هكذا لغة الإنسان الدالة علي صورة العالم والإنسان في حياتنا. وساد الفصل بين الاثنين علي الرغم من أنهما, الفعل والفكر, وجهان لوجود واحد... وجود متفاعل مطرد التطور حتي وإن نزعت الكلمة كثيرا إلي الاستقلال والتجرد اكتفاء بذاتها لتكون هي عين الوجود, ومن ثم الانفصال عن الفعل, ويعيش الإنسان/ المجتمع أسير ثقافة الكلمة, والغفلة عن الفعل انجازا ومعني, أي غياب الواقع في حركته التطورية وقوانينه وإن بقيت قوانين الكلمة وحركة الفكر. ونلمس هذا في ثقافتنا الحياتية حيث الاعتقاد بأن نطق اسم الشيء يعني وجوده, ونعرف اسم الشيء وصفاته نظريا بينما لا نعايشه أو نعامله. وتعج ثقافتنا بأسماء مجردة نعاملها كأنها موجودات حقيقية فاعلة. ومع مستهل حضارة عصر الصناعة, وفي ضوء التطور العلمي والصراع ضد جمود التقليد تأكد مفهوم ال' هومو سابينس' أو الإنسان العاقل. وجاء هذا الفهم دعما لاستقلال الفرد وحقه في التفكير المستقل, ومسئوليته عن الفعل. ويمثل هذا التيار عدد من المفكرين من بينهم الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت ومقولته الشهيرة' أنا أفكر إذا أنا موجود' بمعني أن الفكر هو جوهر الوجود الإنساني وعلته. وسادت ثنائية الذات الفاعلة المستقلة بنفسها والموضوع( الطبيعة) التي هي وجود منفصل وساحة التطبيق أو الفعل في سلبية أي أن الطبيعة هي المادة الخام الخاملة. ومع تطور العلوم في جميع مجالاتها الطبيعية والإنسانية بدا واضحا أن هذه الثنائية غير صحيحة إذ لا وجود لذات مستقلة ولا موضوع منفصل مثلما لا توجد طبيعة دون وجود' الذات', وأن الوجود فعل وفكر متكاملين. وتقول في هذا الباحثة بجامعة مانشستر كيكوك لي: لكي نفهم نوع الكائن المسمي هومو سابينس لا يكفي أن نقنع بتصور النوع كما تصوره ديكارت بأنه في جوهره كائن مفكر يستخدم الرمز اللغة. ذلك أن مثل هذا الفهم يحكي لنا فقط نصف القصة. إذا أنه يغفل قسمتين أخريين بالغتا الأهمية: إنه كائن يسير علي قدمين وقد تحررت يداه, وتطور الإبهامان, وتهيأت اليدان لوظائف جديدة متطورة من خلال الفعل, وفي تفاعل مطرد مع قشرة المخ. وبدأت اليدان والمخ من خلال تفاعلها مع الطبيعة. في تحويل الأشياء إلي أدوات أو أهداف ومشغولات فنية. وهذا نشاط ليس فرديا, بل نشاط مجتمعي لأهداف مجتمعية ويحقق هدفين: اشباع الحاجت اللازمة للبقاء, وتحقيق الذات والحرية معا. وهنا نجد أن التعريف الصحيح للإنسان ليس فقط أنه كائن مفكر بل, وبالأولي' كائن صانع' هومو فابرHomoFabr' وهذا جوهر حقيقي. وإن الفعل الإنتاجي أداة لتحقيق الذات ودعم حرية الذات علي نحو ما كان حال الإنسان منذ المهد في إنتاج الأدوات والمشغولات الفنية. وهكذا تجاوزت كيكوك لي موقف الكوجيتو الديكارتي. وجوهر الهومو فابر هو التحكم في الطبيعة ومعالجتها وفاء لغايات بشرية. وهنا فإن القصدية في الأدوات تعني الفعل والفكر معا, وقد تطور معناها مع التاريخ إلي ما نسميه التكنولوجيا التي هي حصاد الفعل والفكر مجسدين في واحد لضمان بقاء الإنسان وحريته وتحقيق ذاته وهي غايات متطورة أيضا. وتأكدت أهمية هذا المعني مع تقدم العلوم. وأصبح من حقنا القول إن الإنسنان الصانع أو الهومو فابر هو جوهر الحداثة في عصرنا الراهن بفضل طاقاته المجتمعية النشطة في مجال العلم والتكنولوجيا. وهذا التكامل بين الفعل والفكر يجري تاريخيا عبر قشرة المخ في صورة تغذية وتغذية مرتدة متبادلة في تطور مشترك ولعل هذا التكامل بين الفعل والفكر هو ما جعل مفكرا مثل سورين ريس يقول' التفكير في حقيقته حرفة تقنية, وإن هذا البعد التقني هو ما يجعل بالإمكان إبداع أعمال فكرية عظيمة', ولذلك فإن المجتمع من حيث هو جماع طاقة بشرية موحدة مدعومة بالعلم والتكنولوجيا, يمثل رصيدا نشطا من الفعل والفكر معا. ومع استمرار النشاط الموحد تطرد مسيرة الحياة المتقدمة. وإذا غاب الفعل جمد الفكر. وجوهر الفعل المجتمعي المجسد في التكنولوجيا هو الحفز المتجدد للفكر من خلال مشكلات التعامل مع الطبيعة; أي أن الفعل يحفز البشر إلي التفكير المتجدد في العالم, ومن ثم تطور الفكر المجتمعي وتجدد قضايا الحياة. ولهذا فإن من لا ينتج تكنولوجيا مدعومة بالبحث العلمي, أي الجمع بين الفعل والفكر معا إبداعا ذاتيا ينصرف فكره إلي ما هو مجرد فقط, ويغيب عنه العالم بقوانين حركته وصيرورته. وقد يمتلك المجتمع الآلة التكنولوجيا- ولكن يراها مجرد أداة, ويغفل عن حقيقتها باعتبارها نتاج تكامل بين الفعل المجتمعي والفكر المستقلين, ولذلك فإن القناعة بمجرد حيازة التكنولوجيا في العالم الثالث تمثل عبئا لا ميزة; وتعني تبعية وعبودية للتكنولوجيا ولمبدعيها وأخلاقياتهم. إنهم يملكونها أداة لخدمة دون أدراك لدورها كتجسيد لفكر وابداع مجتمع آخر يمثل القوة.. قوة الإنسان الصانع' الهومو فابر' وصورة العالم لديه. وحيازة التكنولوجيا دون العلم يعني فقدان السيادة عليها; ويعني في التحليل النهائي غياب الواقع وقوانين صيرورته والعيش معه كوجود خامل موجود لخدمتنا باعتبارنا مركز الكون.. وليس غريبا أن من يكف عن الفعل يهيم مع عالم المجردات.. يعيش مع عمل فارغ من الفكر دون العالم بما فيه من قوانين ودون فعل التحكم فيه... عالم سكوني, وفكر سكوني يتجاوزهما الواقع النشط... وثقافة سكونية تمجد الماضي وأقصي طموحاتها عود علي بدء. والإيمان العملي بالفعل المجتمعي قرين الفكر في تفاعل مطرد يعني انفتاح باب الأمل والفرص في التغيير والحرية;. وأما غياب الفعل المجتمعي فليس إلا استسلاما للقدرية وجوهرها غياب الإرادة والمسئولية. ومثل هذا الواقع تعبير عن موروث ثقافي يشكل إطارا فلسفيا من حيث الفهم الانطولوجي للوجود, والفهم الابستمولوجين بمعني امكانات المعرفو وحدودها المعرفة عند الإنسان. ولكن هذا الإطار الموروث ليس قدرا ولا شيئا فطريا وإنما قابل للتغيير المشروط إراديا. ونحن, وعلي عكس الإطار الموروث, نري ضرورة الجمع بين الإنسان الصانع والإنسان العاقل, الفعل والفكر, في نظرة تاريخية متطورة وعلي أساس منهج علمي مشروط بالتحديث الحضاري الذي هو تحديث فكر وواقع حياتي إنتاجي واجتماعي يتسق مع مقتضيات حضارة العصر وتحدياتها. وهذا انجاز حققته مجتمعات أخري. وسوف يتبين لنا واضحا أن العجز عن حل المشكلات المتراكمة راجع لأسباب اجتماعية وثقافية وعملية تدخل في نطاق مسئولية الإنسان/ المجتمع. وسوف يتأكد لنا أن الإنسان قادر بإرادته وفعله وفكره أن يصحح أخطاء الماضي ويزيل أسباب التخلف إذا عرف نفسه كوجود تاريخي, وعرف عصره ومقتضياته وتحدياته, وتكيف اجتماعيا للإستجابة نحوها.. أي حين نعرف أن الإنسان جماع تاريخي متطور للفعل والفكر.. إذ الفعل تغيير وحفز للإبداع... والكلمة مقطوعة الصلة بالفعل الإنتاجي للوجود جمود وركود مهما كانت بلاغتها. لمزيد من مقالات د.شوقى جلال