من المؤكد أن الاتجاه الرئيسي, في أي مجتمع ديمقراطي سليم, ينبغي أن يكون مؤيدا للفن والإبداع ورافضا للرقابة والوصاية. فالإبداع الفني وسيلة مشروعة وحيوية من وسائل التعبير عن الذات. وهو بالنسبة إلي بعض الناس أمر لا غني عنه لكي تكون الحياة سعيدة. ولا بد أن يكون إيماننا بالحرية شاملا للحرية الفنية بقدر ما يشمل النشاط السياسي والنشاط الاقتصادي. فأي عمل من أعمال الرقابة إنما هو انتقاص من الحرية, وبالتالي فهو يتعارض مع أحد القيم العليا للمجتمع الحديث. كما أن للرقابة أضرارا بالغة, فهي قد تخلق جوا من الخوف والرهبة بين الفنانين, يؤدي إلي إماتة الرغبة في الإبداع لديهم أو انحسارها. فشخصية الفنان لا بد وأن يعاق نموها إن لم يستطع الفنان أن يطلق العنان لأفكاره الخلاقة, والكبت عند بعض الفنانين أشبه بحرمانهم من الماء والهواء. وفضلا عن ذلك فإن هذا يؤدي إلي عزل الفنان عن تكوين علاقة مثمرة مع واحد من أهم العوامل المؤثرة علي فنه, وهو جمهوره. فكثيرا ما تكون الاستجابة المباشرة للجمهور عاملا له قيمة كبيرة لا تقدر, تعين الفنان في عملية النقد الذاتي, وبالتالي في النهوض بفنه. فالجمهور يتيح للفنان أن يقيس ما أحرزه من نجاح أو إخفاق. ولو كان علي الفنان أن يقدم أعماله إلي الرقابة قبل أن يقوم بنشرها, فأغلب الظن أن أجرأ تجديداته لن يسمح لها بأن تختبر من خلال استجابة الجمهور لها. كذلك ينبغي أن ندرك أن أي عمل من أعمال الرقابة يجر وراءه خسارة كبيرة في الاستمتاع الجمالي. فالتجربة الجمالية خير في حد ذاتها. ولذا فإن حظر عرض عمل فني أو أداءه علنا يحرمنا من فرصة الاستمتاع بالقيمة الكامنة فيه. وفضلا عن ذلك, فمن الواجب ألا ننسي, مع كل ما يقوله أصحاب اللحي الكثة والسحنات المقطبة عن النتائج الضارة للفن, أن تأثير التجربة الفنية كثيرا ما يكون نافعا. ولكن مثل هذه التجربة ليس لها تأثير مباشر, يترتب عليه أن نهرع إلي أداء عمل فاضل. بل أن التأثير الأخلاقي للفن أعمق وأشمل. ففي استطاعة الفن أن يغير شخصيتنا من نواح عديدة, بحيث أنه عندما يحين وقت السلوك, نكون أحكم وأقدر علي الفهم. وفي وسع الفن أن يزيد من فهمنا للدوافع الإنسانية, ويستطيع أن يعمق من تعاطفنا مع الآخرين, ويستطيع كذلك أن يجعلنا نفكر بعمق في معتقداتنا المتوارثة, ونتخذ منها موقفا نقديا واضحا. والأهم من ذلك كله أن الرقابة قد تمهد الطريق للتحكم السياسي في مجالات الحياة الأخري. ولعل بعضنا يذكر ما شاع في مصر بعد نكسة سنة1967 من أن أحد أسبابها هو أننا لم نعرف شيئا عن عدونا, بينما كان العدو يعرف كل شيء عنا, فأضاف إلي قوته بهذه المعرفة, ما حرمنا نحن منها بسبب الرقابة, وتحريم كل ما يتصل بالآخر علي الشعب الذي أدرك علي نحو موجع متأخرا, معني أن المعرفة قوة, وأن الجهل الناتج عن الرقابة ضعف خطير يؤدي حتما إلي الهزيمة التي تبدأ من الداخل قبل أن تأتي من الخارج. وكان من علامات هذه الهزيمة أسطورة الوصايا علي الناس من الذين يدعون أنهم حراس العقول وحماتها, مع أنهم في واقع الأمر قامعو العقول وأعداء حرية المعرفة. كتب يوسف إدريس ذات يوم يقول:' إن كل الحرية المتاحة في الوطن العربي لاتكفي مبدعا واحدا لممارسة إبداعه بشكل كامل, بعيدا عن القيود المتعددة التي يفرضها الاستبداد السياسي والتصلب الفكري والجمود الاجتماعي والتعصب الديني'. ولا أظن أن أديبنا الكبير كان يقصد فحسب الحرية الخارجية المتاحة, وإنما كان يقصد أيضا الحرية الداخلية للمبدع نفسه, الحرية النابعة من الرغبة الذاتية, حرية الوجود بالفن وللفن, وحرية الفن نفسه في أن يكون ما يكون, دون أن يحد من انطلاقه موانع الرقابة الداخلية التي يزرعها المجتمع داخلنا دون أن ننتبه. والواقع أن المشكلة الأولي التي يواجهها المبدع العربي ليست في الرقابة الرسمية الخارجية التي تفرضها أجهزة الدولة بعد إنجاز عملية الإبداع, وإنما الرقابة الداخلية الذاتية التي تتشكل أثناء عملية الإبداع, وتنمو داخل المبدع كلما تزايدت شروط القمع المقرون بالرقابة الخارجية واتساع مجالاتها, وذلك في سلسلة لا ينفصل طرفاها, فالقدر الذي تتسلط به الرقابة الخارجية, ينعكس علي الداخل ويؤسس رقيبا داخليا, هو انعكاس للرقيب الخارجي, واستجابة له بمعني لا يخلو من القهر. فتنقسم بالتالي الذات المبدعة إلي نصفين, نصفا يبدع ونصفا يراقب, نصفا يحلم بالممكن والمغاير والبعيد, ونصفا يستبدل الواقع بالممكن, والمألوف بالمغاير, والقريب بالبعيد. والرقيب الداخلي, كما يؤكد الناقد الكبير جابر عصفور, أخطر علي الإبداع من الرقيب الخارجي, لأن الأول يتولد عن الثاني وينوب عنه, ويظل يقوم بمهمته حتي في غيابه, ولا يقبل الخداع أو تنطلي عليه المراوغة, ويبقي يقظا فيحبس الإبداع في المساحات الآمنة, وينأي بالفن عن مغامرة الإبحار بعيدا عن الشواطئ المأهولة المطروقة. وهو المسئول عن الحدود التي لم يجاوزها إبداعنا العربي بالقياس إلي تراثه المجيد, أو بالقياس إلي آفاق الإبداع في العالم حولنا. وهذا الرقيب الداخلي هو الذي ينبغي الالتفات إليه, والبدء به في قضية الرقابة, فلا تحرر في الخارج ما لم يسبقه تحرر في الداخل. أضف إلي ذلك أن الرقيب الخارجي قد يمر عليه المجاز الغريب والرمز البعيد, وقد لا يدرك المعني الغامض, وقد يخدع بظاهر الأشياء عن باطنها. لكن الرقيب الداخلي يظل يقظا كالأنا الأعلي التي تكلم عنها سيجموند فرويد, مترصدا كالحرباء التي تجيد التخفي, فلا تخفي عليه خافية, ولا يخادعه صاحبه بل ينخدع به. ولا يعني ذلك بالتأكيد, التقليل من شأن أخطار الرقابة الرسمية الخارجية, أو التهوين من الدور القمعي الذي تقوم به أجهزتها من مراقبة إبداع المبدعين, أو الكف عن المطالبة برفضها وضرورة أن تستبدل سلطة القانون العام بسلطة أجهزتها الخاصة, وإنما يعني أن مواجهة الرقابة لا بد أن تبدأ من الداخل, وأن المبدع لن يحرر ما يخطه قلمه من كلمات, أو ما ترسمه فرشاته من ألوان, إلا إذا حرر وعيه في أثناء عملية الإبداع. لمزيد من مقالات د. جلال الشايب