بعض الكتاب وجدوا مخرجا في الالتزام السياسي بما يرون أنه تمسك بنتائج العلم الاجتماعي في الكشف عن دور الطبقات الشعبية العاملة في بناء مستقبل مأمول في انتفاضات حلقة 25 يناير الثورية في مصر اشترك شعراء وروائيون وأديبات وفنانون تشكيليون وفنانات وسينمائيون ومطربون ومطربات كانوا قد رفضوا جميعًا اللاسياسة في الفن والانعزال الفني المزعوم عن التناقضات الاجتماعية. كما ألحقوا الهزيمة بضيق الأفق الذي لا يري في الفن إلا تعبيرًا عن الذات الفردية المغلقة، وعن عواطفها وجسدها أو عن تقنيات شكلية محضة. ومعهم كانت قد ازدهرت الكتابة الأخري أو فن الضفة الأخري؛ ضفة المقاومة والنضال المتطلع إلي تجاوز الواقع المرفوض وإبداع قيم عالم متخيل جديد. وكان ذلك تأكيدًا لمفهوم راق للعلاقة بين السياسة والفن. فلم تعد السياسة هي الخطب والشعارات المرحلية ومانشيتات الجرائد والمشاكل الجزئية، بل تتعلق بالتيارات الاجتماعية والفكرية والسيكولوجية العميقة المتصارعة علي تشكيل أو تشويه روح الإنسان وملامحه الوجدانية ورؤيته للعالم ومصيره. وقد تكون الإسقاطات السياسية السطحية عن الحياة المعاصرة وتحويل قضاياها إلي مادة للإثارة أو الترفيه وسيلة فعالة لإبعاد المتلقين عن السياسة الجادة، أي عن المشاركة الوجدانية بدور فعال في تشكيل المصير ولتبني أردأ أصناف السياسة وهو اللامبالاة وذلك بتأييدهم الأوضاع السائدة. وهنا يبدو مفهوم السياسة غائمًا فضفاضًا. كما أن الفن والأدب رغم أنهما لايعطيان الأولوية لتصوير الانتماءات السياسية، فإنهما لا يستطيعان تجاهل العلاقات بالمجتمع ولا ارتباطهما بالقضايا المؤثرة في الشخصية الإنسانية والمصير الإنساني، ولا بالإسهام علي الأقل في الحلم بتشييد عالم متخيل دفاعًا عن قيم كبري مثل الحرية والعدالة وتحقيق الطاقات الإنسانية وتطويرها. ولكن الفن والأدب ليسا معنيين بالتبشير السياسي في ذاته ولكنهما يجعلان القيم الإنسانية الكبري جزءًا من الممارسة الفنية الأدبية. ولا يعني ذلك التسييس المبالغ فيه للمجال الفني، بل الدعوة إلي حوار حول تفاعل مجالات مستقلة وحول علاقة الثورة الاجتماعية بالثورة في الفن والأدب، أي بالقطيعة مع أشكال تقنية تقليدية. كما يعني مزج الاجتماعي العام بأحلام الناس وانفعالاتهم وطاقاتهم، وبذلك يرتفع المضمون الفني والأدبي ومعهما المضمون السياسي من مستوي الشواغل اليومية والسياسية المباشرة إلي المستوي الوحيد الذي يعد غاية في ذاته وهو مستوي تطوير الطاقات والقدرات والمواهب الإنسانية الحسية والانفعالية والإدراكية. فلا يعود العمل الفني ولا تعود السياسة في الفن مجرد أرشيف وثائقي يعكس الواقع الاجتماعي أو الفردي، بل يتجاوزان قيد اللحظة الحاضرة إلي موقف إنساني متصل، موقف من تشكيل الشخصية الإنسانية بكل ثرائها. ومن الخطأ القول إن العمل الفني لا يحيل إلا إلي نفسه وأن هذا الاكتفاء الذاتي هو تبريره النهائي؛ فالعمل تتخلله دائمًا رؤية معينة للإنسان في العالم، وهو ليس عملاً سياسيا في المحل الأول وقبل كل شيء، ولكنه عندما يتناول مسألة سياسية لابد أن يجد في هذه الساحة السياسية تجسيدًا لرؤية عن الإنسان في العالم وليس من أجل الدفاع عن حزب ما أو مذهب سياسي ما، بل من أجل اختيار موقف يتمشي مع الرؤية الفنية. هنا نجد رفضًا واضحًا للسلبية والانسحاب من جانب هؤلاء المنخرطين حتمًا في العالم الذين يكتبون ويمارسون الفن لعصرهم في مواقف ووجهات نظر راهنة دون أن تكون وثائق تسجيلية أو شهادات علي معارك حدثت وانقضت. فما المقصود بالرؤية؟ الرؤية ليست النزعة التبسيطية التي تطلق علي تصوير جوانب معينة من العالم الداخلي للفرد. فالعالم الداخلي للفرد يشمل السيكولوجيا الفردية والخصائص الشخصية والانطباعات والخواطر التي لا ينتظمها نسق، والمعاني والانفعالات والميول والسمات المميزة للشخصية والعادات واللاشعور، أي يشمل كل ذلك الخليط المتضارب. ولا شك في أن عملية تشكيل الرؤية الفنية لابد أن تكون عملية معقدة، فهي لا تقف عند الإدراك السياسي ولا التقييم والإدراك العقليين، بل تتضمن أيضًا الحدس والخيال والانفعال والدوافع اللاشعورية. ولا يؤكد الفنان المبدع رؤيته بالفكر وحده بل بكل ذاته وحواسه، كما أن الفن لا يقدم إعلامًا في المحل الأول، فهو لا يقدم من المعلومات إلا تلك التي تسهم في تشكيل العالم الإنساني. فما من تضاد مطلق بين المعرفة والأثر الانفعالي لأن الفن يقدم نماذج وتعميمات لظواهر الحياة الإنسانية ولا انفصال في عملية الخلق بين ما هو انفعالي وما هو معرفي وخاصة عند الإسهام في خلق ملامح ونماذج الشخصية. ولكن المفهومات الفكرية والتعميمات السياسية لا توجد في الفن والأدب كمواد مباشرة بل كبواعث فاعلة وراء تطور التجارب الحسية وتشكيلها. وليس معني ذلك أن ليس ثمة تناقضات بين الفكر السياسي العام والملامح النفسية المصورة أو المتبدية في العمل، فكثيرًا ما تحتدم التناقضات بين تلقائية الاستجابات السيكولوجية للواقع المباشر والقالب السياسي الإيديولوجي المتميز بالاتساق الفكري إلي هذه الدرجة أو تلك. قد يكون لتلك التناقضات خصوبتها في التصوير الأدبي خصوصًا. وتتجسد نظرة الكاتب إلي الحياة في طريقة كتابته التي يفرق فيها بين الجوهري والعرضي والقريب والبعيد والقديم والجديد وموضع التأكيد أو التخفيف، فكل تجسيد للواقع يتطلب تقويمًا. وثمة وحدة حافلة بالتناقض بين الصدق الواقعي ووجهة نظر الكاتب السياسية داخل العمل الأدبي، فأعمال تولستوي مثلا لا تعكس دروب الصراع في الحياة فحسب بل تعكس تناقضات رؤيته أيضًا، فليست رؤية الكاتب إلي العالم متكاملة دائمًا أو متناغمة دائمًا بل قد تكون في الكثير من الأحوال معقدة تحوي نقاط تضارب. فليس هناك تطابق آلي بين ما في ذهن الكاتب من موقف سياسي وبين ما يقوله أو يستطيع قوله بنجاح أو إخفاق. فهناك منطق الواقع وعملياته ووقائعه الموضوعية التي تعدل من نوايا الكاتب الأصلية. وعلي الرغم من أهمية الموهبة وقوة الملاحظة والخبرة الفنية فإن المواد التي يكتب بها ومن خلالها وكذلك السيكولوجيا الاجتماعية السائدة قادرة كلها علي أن تقدم مقاومة كبيرة لتحيزه السياسي بما فيه من تعاطف وعداء. والكثير من الكتاب (بلزاك مثلا يتجاوزون في أعمالهم مفهوماتهم السياسية الشخصية). فروايات بلزاك متحررة من آرائه السياسية المباشرة التي تهيم حبًا بنظام ملكي إقطاعي ومنفصلة عن خطه السياسي الذي يدافع عنه عمليا، فرؤية بلزاك الفنية لا يمكن استنباطها من وعيه السياسي. بالنسبة للكتاب عمومًا تكون الحياة العامة ذات أبعاد شاسعة تكتسح الفرد وتجعله يحس بفقد القدرة علي التأثير وبقصوره إزاء الضغوط العامة ذات الطابع القسري. فماذا يستطيع الفرد أن يفعل إزاء السياسة العالمية والحروب الباردة والساخنة والقرارات والأزمات الاقتصادية والأسرار التي لا تلم بها إلا نخب محدودة. فالكاتب يواجه حياة عامة تفقدها دواماتها المضطربة الشكل الواضح، فهي تتميز بأزماتها وتغيراتها السريعة. ولا تصلح الحساسية الذاتية المنعزلة أن تكون ملاذا من عواصف الحياة العامة تهب الفنان المعني المفتقد. فهي لا تستطيع أن تنقذه من هذه الحياة حيث تتكدس الجماهير والإدارات والدواوين والأقليات المسيطرة. وقد يبدو العالم من حوله متغيرًا عن الأزمان السابقة وقد يشعر هو أيضًا أن طبيعته تغيرت، كما قد يبدو العالم غريبًا معاديا. فإذا انكفأت الذات الفردية علي نفسها محاولة خلق عالم جديد يعيد فيه الفرد الخلاق ابتكار القواعد الأساسية والحدود الأولي والمصطلحات الموجهة المختلفة مع خطوط الحياة الواقعية بألوانها وتدرجاتها وأنماطها المألوفة. إن ذلك قد يعد جنونًا والحديث بلا نهاية عن مأزق الوضع البشري كصفة جوهرية للوجود والوعي. الالتزام السياسي قد وجد بعض الكتّاب مخرجًا في الالتزام السياسي بما يرون أنه تمسك بنتائج العلم الاجتماعي في تحليل الأوضاع المعقدة والكشف عن دور الطبقات الشعبية العاملة في بناء مستقبل حتمي مأمول (الكتاب الماركسيون في الأحزاب سوفيتية الطراز). ولكن الأفكار الاجتماعية لا تصبح مادة فنية إلا بعد أن تنصهر في الإبداع الخيالي، فليست حركة التاريخ ولا قوانين التطور الاجتماعي، التي يقال إن العلم قد اكتشفها، أصنامًا معبودة؛ وليس مجري التاريخ قدرًا محددًا سلفًا، كما أن وعي البشر لا يعكس العالم الموضوعي فحسب بل يخلقه أيضًا. وليس مسار الفنان الحق هو المشي علي أطراف الأصابع فوق الخط المفترض لاتجاه التاريخ. فليس هناك في كل فترة من الفترات تطور عاصف يتجه نحو واقع جديد، فهناك فترات ركود قد تكون طويلة وهناك فترات اختمار وإعداد. ويجب البحث أثناء تلك الفترات عما يحدث أثناءها في مسام الحياة المتنوعة من استجابات هي المجري الحقيقي للأمور، وإلا تحول الوعي السياسي المزعوم بقوانين التطور إلي إنتاج هياكل وهمية تجريدية تعبر عنها بلاغيات حماسية لموقف سياسي زائف. وقد تكون المبالغة في التسييس إفقارًا للفن بعزله عن تطوير الأوجه الروحية واكتشاف أعمق مجالات نفس الإنسان من تلك الاستجابات والعادات والغرائز. فللفن طرائقه الخاصة في استيعاب الواقع الإنساني تضاف إلي طريقة العلم وإلي أساليب السياسيين. من المفارقات الملاحظة تاريخيا أن أنطونيو جرامشي القائد السياسي الملتزم قد ذهب إلي وجود تباين فعلي بين المسعي السياسي والمسعي الفني، فالفنان يسعي انطلاقًا من ذاتيته إلي دعم وتثبيت فردية اللحظة المصورة، علي حين أن السياسي لا يري أي حركة إلا من زاوية تغيراتها. وعند السياسي يتمشي تقييم أي عامل من العوامل مع ضرورة دفع الناس إلي الحركة ونقلهم وراء حدود اليوم الحاضر وجعلهم قادرين علي إنجاز الهدف المنشود جماعيا. فذلك هو الذي يجعل السياسي غير راض عن الفنان كما لا يجعله قادرًا علي أن يكون فنانًا. وقد يستنتج من ذلك خطأ أن أي تدخل من جانب السياسة في الفن وأي محاولة منها للتأثير فيه تسيران عكس طبيعة الفن والفنان ويحملان خطر تشويه تلك الطبيعة وفرض العنف ضد الحرية الإبداعية. وقد يصل هذا الفهم الخاطئ إلي أن يكون المخرج ماثلا في رفض السياسة والتمسك بالاستقلال المطلق للفن. من المفارقات أيضًا موقف السياسي لينين من جوركي الكاتب الفنان فقد كان لينين يشدد دائمًا علي أن جوركي بطبيعته ليس سياسيا وأنه لا ينبغي أن يشغل نفسه بالسياسة (خطاب لينين إلي جوركي بتاريخ 31 يوليو 1919). ولكن الأدباء متغايرون في موقفهم من السياسة بعضهم ليس إلا فنانًا وبعضهم وثيق الارتباط بحركة سياسية قد تحوي الكثير من النشاط الإبداعي التحويلي وبعضهم الثالث بين بين. لكن ألبير كامي الفنان يرفض الفن للفن فهو يعتبر هذا المذهب غطاء مخجلا لانعدام المسئولية. ويقف بحسم من أجل فن يحافظ علي صلته بالمجتمع وضد الفن من أجل اللامبالاة والفن الشكلي، فالفنان ينبغي أن يتكلم من أجل الكثيرين وعن الكثيرين. هناك في حياة المجتمع لحظات معينة حينما تتخذ الثقافة دور السياسة ويشغل المثقف الدور الذي هجرته السياسة وتكتسب كل كلمة من الكاتب قوة سياسية. ويحدث ذلك حينما يكون من الضروري تقويض الوضع القائم ويصبح للفن رسالة خاصة نقدية في المحل الأول. ويرفض الأدب الإبداعي في هذه اللحظة أن تكون الحياة نظامًا مغلقًا ويصبح هو تحديا وصراعًا وحماسًا وشهادة مقاومة تكشف عن التناقضات وترفض الانضمام إلي الطابور الخاضع للتلاعب والبيروقراطية وفرض الأوامر من أعلي بواسطة قوي القهر. فلا يوجد توتر دائم بين الفن وبين القوي التي تسعي نحو الحقيقة الموضوعية والتحرير بواسطتها، فالفن يعمد دائمًا إلي الإيهام بالحقيقة ولا يمكن أن يكون معاديا لها.