لاشك أن الإنسان يتحرك في الحياة من منطلق خبرته وثقافته, وأن ثقافة الإنسان تؤثر تأثيرا بالغا في ضبط سلوكه وتصرفاته, وعلاقاته الأسرية والمجتمعية والإنسانية, ومستوي أدائه لعمله وإتقانه له, ودرجة وطنيته, وإحساسه بالمخاطر التي تحيط بوطنه, وأثر العلاقات والتوازنات الدولية علي المصالح الوطنية, ومدي تأثره بها وتأثيره فيها, وكذلك مستوي علاقته وتعايشه مع الآخرين. ومن هنا لم يعد الاهتمام بالثقافة والتكوين الثقافي للفرد والمجتمع ترفا أو أمرا ثانويا أو من نافلة القول أو العمل, إنما هو أمر في صميم المصلحة الوطنية, بل إننا لا نبالغ إذا قلنا إن المصلحة الوطنية لا يتم تحققها الكامل دون إطار أو وعاء ثقافي مدروس ومتكامل. ونؤكد أن مؤسسات عديدة تسهم في هذا التكوين, من أهمها: الأسرة, والمدرسة, والمسجد, والجامعة, ومراكز الشباب, والإعلام مقروءا ومسموعا ومرئيا, وصارت مواقع التواصل الاجتماعي والإلكتروني أحد أهم عوامل وروافد تشكيل الوعي الثقافي للأفراد والمجتمعات. وبما أن وزارة الأوقاف علي وعي بذلك كله فإن دعوتها وقوافلها الدعوية التي تتم بالتنسيق مع الأزهر الشريف, وتحت رعاية فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر تضع أهمية هذا التنوع نصب أعينها, فتتنوع القوافل والمحاضرات والندوات لتعم المساجد, والمدارس, والجامعات, ومراكز الشباب, والتجمعات العمالية, غير أن هذه القوافل لا يمكن أن تؤتي ثمرتها الكاملة والمرجوة إلا بتضافر جهود تلك المؤسسات التي تم ذكرها في مجال التربية والتثقيف. التنوع الثقافي في مواجهة الانغلاق: ولكي يحدث انفتاح في الأفق الثقافي للفرد والمجتمع فلابد من التنوع في مواجهة الانغلاق وانسداد الأفق والانكفاء علي الذات, وأحادية البعد الثقافي, بحيث إنك قد تلتقي إنسانا حصل علي أعلي الشهادات الجامعية في تخصص نظري أو تطبيقي ومع ذلك تراه ضيق الأفق, محدود الثقافة, غير قادر علي التواصل الجاد مع المجتمع, وليست لديه القدرة علي تفهم ما لدي الآخر من معطيات وقناعات فكرية أو ثقافية أو وطنية. ومن هنا تأتي أهمية إعادة النظر في كم ونوعية المكون الثقافي في التعليم الجامعي وقبل الجامعي, ومدي تنشيط دور مراكز الشباب في الحوار المجتمعي, وأن يعمل الخطاب الدعوي علي الإسهام في ذلك بفاعلية كبيرة. وقد صار لدينا الآن في الأزهر والأوقاف نخبة متميزة من الدعاة الذين يجيد بعضهم لغة أو لغتين إلي جانب إتقانه للعربية, مما يجعله قادرا لا أقول علي التواصل المجتمعي فحسب, إنما يجعله قادرا علي التواصل علي مستوي دولي وعالمي, ومتمكنا من التعامل بفاعلية مع الوسائل العصرية التي تمكنه من فهم الواقع من جهة, وأداء رسالته بفاعلية واقتدار من جهة أخري. الثقافة والقيم: إذا كنا علي يقين بأن الإفراط شر كله, وأن التفريط شر كله, وأن التوازن كل التوازن في الوسطية حيث لا إفراط ولا تفريط, فإذا كنا ننبذ التشدد والتطرف والغلو فبنفس القدر ينبغي أن ننبذ كل مظاهر التحلل والانحراف عن طريق الجادة, فإنك لن تستطيع أن تقتلع التشدد من جذوره إلا إذا عملت بالقدر نفسه علي القضاء علي التحلل والانحراف وكل ما يمكن أن يمس القيم الراسخة للمجتمع, فكما يقول علماء النفس لكل فعل رد فعل مساو له في النسبة ومعاكس له في الاتجاه, ويقولون لكل شيء طرفان ووسط فإن أنت أمسكت بأحد الطرفين مال الآخر, وإن أنت أمسكت بالوسط استقام لك الطرفان, ولذا قال الإمام الأوزاعي( رحمه الله) ما أمر الله عز وجل في الإسلام بأمر إلا حاول الشيطان أن يأتيك من إحدي الجهتين لا يبالي أيهما أصاب الإفراط أو التفريط, فنحن مع التيسير لا مع التسيب, ومع السماحة لا التفريط, و مع الالتزام الديني والقيمي والأخلاقي دون أي تشدد أو تطرف أو جمود أو انغلاق, فبين التشدد والالتزام خيط جد دقيق, وبين التيسير والتسيب خيط جد دقيق, والعاقل من يدرك هذه الفروق الدقيقة, ويقف عند حدودها فاقها لها متعاملا معها فاقها لها, غير غافل عنها, وقد قيل لسيدنا عبد الله بن عباس( رضي الله عنهما): حب التناهي شطط خير الأمور الوسط, هل تجد هذا المعني في كتاب الله عز وجل قال نعم في عدة مواضع, منها قوله تعالي: ولا تجعل يدك مغلولة إلي عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا, وقوله تعالي: والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما. لمزيد من مقالات د . محمد مختار جمعة