ظل الأزهر الشريف قلعة الإسلام عبر العصور, وكان الجامع الأزهر في مصر هو الذي يمثل الدعوة الإسلامية والعمل السياسي الإسلامي المستقل عن الحكام, والمرجعية الأساسية في قلوب المسلمين. وحتي يعود الأزهر لوجدان وقلوب المسلمين, كما كان, جاءت فكرة انطلاق القوافل الدعوية التي تجوب محافظات مصر من الأزهر الشريف وبالتعاون مع وزارة الأوقاف, لنشر المنهج الأزهري الوسطي واحياء منظومة القيم والأخلاق ومواجهة دعاة التشدد. وفي ظل شيوع الفكر المتطرف وتضارب الفتاوي- وإذا كانت المواجهات الأمنية وحدها لا تكفي لمواجهة دعاوي التكفير ودعاة التشدد- فنحن بدورنا نتساءل عن أهمية هذه القوافل الدعوية في هذا التوقيت بالغ الأهمية, ومدي نجاحها في نشر الوسطية ومواجهة الفكر المتطرف, وأدوات نجاح هذه القوافل ومدي تفاعل المسلمين معها وما هي العقبات التي تواجهها, وكيفية تطويرها, ولذلك لابد من الاستماع إلي شهادات وتجارب عدد من رموز تلك القوافل. يقول الدكتور محيي الدين عفيفي عميد كلية العلوم الإسلامية للوافدين بجامعة الأزهر وأستاذ الثقافة الإسلامية بكلية الدعوة, إن فكرة قوافل علماء الأزهر الشريف جاءت انطلاقا من حرص الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب, شيخ الأزهر, علي استعادة الدور المحلي والعالمي للأزهر في مجال الدعوة إلي الله لنشر الفكر الوسطي بفهم الأزهر من خلال الفكر الأزهري المستنير الذي يقوم علي الكتاب والسنة وحسن التأمل والتدبر في نصوص الكتاب والسنة, حيث أن المجتمع المصري خاصة والعالمي بصفة عامة بحاجة إلي فهم الدين فهما صحيحا لاسيما في هذه المرحلة التي انتشر فيها الغلو والتشدد ومحاولات الخروج عن وسطية وسماحة وإنسانية الإسلام, فكانت قوافل علماء الأزهر هي بداية جديدة لإعادة روح السماحة والوسطية من خلال طرح الموضوعات التي يحتاجها الناس في هذه المرحلة الراهنة, خاصة بعد أن تعرض المجتمع المصري لهزات شديدة أدت إلي نوع من الانقسامات والتصنيفات وإصدار الأحكام جزافا علي الناس, وإزاء هذه الحالة كان علي الأزهر أن يعيد الأمور إلي نصابها من خلال نشر مفاهيم الوسطية والقيم الإنسانية العليا, وذلك من خلال تلك القوافل التي تجوب مختلف محافظات مصر لتأكيد الدور الريادي للأزهر الشريف. أبرز الموضوعات وحول الموضوعات التي يتم تناولها, يقول الدكتور عفيفي إن فقه المرحلة يقتضي التركيز علي إصلاح ذات البين بين كل أطياف الشعب المصري, وأهمية التعاون والتراحم بين جميع فئاته, وبيان أن مصر تحتاج إلي جميع سواعد أبنائها دون الإقصاء لأحد من المصريين, وأن الأصل في الحياة التعاون والتراحم والتآلف, حيث جاءت نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية لتؤكد هذه المفاهيم والقيم العليا, ونحرص علي تناول مثل هذه الموضوعات وغيرها بأسلوب موضوعي ومنهجية علمية ترتكز علي منهج الدعوة الذي بينه القرآن الكريم في قوله تعالي: أدع إلي سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن( النحل), وطرح كل الموضوعات التي تعمل علي جمع الشمل لأبناء الشعب المصري, وتطرح هذه الموضوعات من خلال الوسائل الدعوية التي تتمثل في الخطب أو الدروس أو المحاضرات, وذكر جميع الحقائق مجردة من الأهواء والتوجهات لبيان المعالم الصحيحة للإسلام, كما تركز تلك القوافل علي بيان تعاليم الإسلام السمح وتصحيح المفاهيم المغلوطة, ونبذ ثقافة العنف والتشدد وتأكيد روح التسامح التي قررها الإسلام. عقبات وحلول وحول أبرز العقبات التي تعترض مسيرة القوافل الدعوية في المحافظات, يقول الدكتور محيي الدين عفيفي إن انتشار روح التعصب والتشدد والغلو, والانتماءات السياسية والأيديولوجية, والأجندات السياسية المختلفة, والصور الذهنية السلبية الموجودة في عقول بعض الناس والتي تمنعهم من الاستجابة للحق, هي أبرز العقبات التي تواجه عمل القوافل, والإسلام يربأ بالمسلمين وينأي بهم عن هذا التعصب والتشدد ويدعوهم إلي السلام والوئام وعدم إصدار الأحكام الجزافية علي الناس دون دليل أو برهان, وبفضل الله نتخطي هذه العقبات من خلال نصوص القرآن الكريم, وعرض حقائق الإسلام عرضا موضوعيا يبين الرؤية الصحيحة التي جاء بها النبي صلي الله عليه وسلم- وطبقها عمليا وفهمها الصحابة, وعرض الإسلام بالمنهج الصحيح الذي جاء به النبي صلي الله عليه وسلم- والذي ورد في القرآن علي لسانه الشريف صلي الله عليه وسلم في قوله تعالي قل هذه سبيلي أدعو إلي الله علي بصيرة أنا ومن اتبعني...( سورة يوسف), فنحن بحاجة إلي عرض مفاهيم الإسلام عرضا موضوعيا صحيحا حتي تكون الدعوة خالصة لله تعالي, تتوخي الإصلاح بين الناس إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب ونحن في هذه المرحلة الراهنة نحتاج إلي خطاب دعوي يجمع ولا يفرق ويدعو إلي التعاون والمحبة بين جميع أبناء الشعب, ويدعو إلي تغليب المصلحة العامة, حيث إن مصلحة مصر فوق الجميع, وإننا سنسأل يوم القيامة عن كل ما بدر منا وعن مواقفنا وعن بواعث مواقفنا, فليتق الله الجميع في مصر. من جانبه يقول الدكتور محمد مهنا, عضو المكتب الفني لشيخ الأزهر, إن خروج قوافل الدعوة من علماء الأزهر والأوقاف سوف يعيد تصحيح المفاهيم الصحيحة عن الإسلام, ويسهم في إعادة المفاهيم الصحيحة عن الإسلام وترسيخ الوسطية التي افتقدناها إلي حد كبير خلال العقود الماضية, ويشير الدكتور مهنا إلي أن أدوات نجاح هذه القوافل تتمثل في إعداد وتدريب كوادر الأزهر من الدعاة والوعاظ والعلماء علي الأساليب الحديثة في الدعوة, وأساليب التواصل مع الجماهير, وليتم الإعداد المسبق للأماكن التي سيذهب إليها الدعاة حتي يكون استقبالهم علي أحسن وجه, وتأثيرهم أيضا بالغا في النفوس, كما يتم الإعداد الإعلامي بصورة جيدة حتي يمكن إفادة أكبر عدد من الجماهير خاصة أن هناك تعطشا شديدا من المجتمع المصري عموما إلي الأزهر وعلمائه في تلك الآونة. وأكد الدكتور مهنا أننا في أمس الحاجة إلي التركيز علي إعداد الداعية الحقيقي الذي يتحول فيه من مجرد مبلغ إلي طبيب للقلوب والعقول والنفوس في المكان الذي يقوم فيه علي الدعوة. تطوير القوافل ويؤكد الدكتور سيف رجب قزامل, عميد كلية الشريعة والقانون بطنطا ومستشار وزير الأوقاف, أن سر نجاح القوافل الدعوية كان نتيجة الإعداد الجيد من الطاقم الإداري من المكتب الفني بمشيخة الأزهر وبإشراف الدكتور محمد مختار جمعة الذي كان مستشارا لشيخ الأزهر آنذاك وتوجيهات الإمام الأكبر الدكتور الطيب, وأيضا بسبب صدق النوايا لدي العلماء وحرصهم علي الالتحام بالجماهير وأداء رسالتهم المنوطة بهم حتي يسعد الجميع بوجود الأزهر بينهم, كما أن العلماء حينما مارسوا المهمة انتابهم شعور بالواجب الوطني الذي فخروا بأدائه, ومن أدوات النجاح أيضا قيام بعض العلماء بمدينة السويس سواء من جامعة الأزهر أو الأوقاف أو الوعظ ببذل الجهد الطيب للتعريف بالمحافظة والأماكن التي تم التوجه إليها, فكانوا هؤلاء بمثابة ترابط بيننا وبين المواطنين, وكانت هذه القوافل بحضور الجهات الرسمية من المحافظة وغيرها, وتناولت الموضوعات السماحة في الإسلام والتكافل الاجتماعي ودور الأزهر في نشر الوسطية. ويوضح الدكتور قزامل أن الخروج المتكرر لهذه القوافل إلي شتي الجهات جعل العلماء يفكرون في تطوير هذه القوافل وتفادي العقبات والمشاكل التي واجهتهم من قبل وطالب فضيلة الإمام الأكبر بأن تكون هذه القوافل لها دور خارج جمهورية مصر العربية, وسيسعي العلماء إن شاء الله إلي التواصل مع الجماهير للاستفادة بملاحظاتهم علي الموضوعات وتنوعها ومدي تأثيرها وتكرار الزيارات, والتواصل عبر شبكة التواصل الاجتماعي. إحياء ونشر القيم وأوضح الدكتور حسن خليل, مستشار وزير الأوقاف, أن هذه القوافل برعاية فضيلة الإمام الأكبر, وبإشراف الدكتور محمد مختار جمعة وزير الأوقاف, تنطلق إلي جميع محافظات الجمهورية لنشر الفكر الإسلامي الصحيح محاولين الوصول به إلي كل أبناء مصر في مدنها وقراها وربوعها ونجوعها, ورجالها ونسائها وشبابها لتأكيد أهمية القيم والأخلاق في الارتقاء بالمجتمع المسلم, متبنية منهج الأزهر الوسطي, حيث لا إفراط ولا تفريط ولا غلو ولا تقصير, وانطلقت أمس( الخميس) قافلة من أهم القوافل إلي الأقصر تضم15 عالما من الأزهر والأوقاف, ويكون معظم الدروس في الفترة المسائية حتي يشهدها أكبر حشد ممكن من الناس, وتكون في النوادي والشركات الكبري والمساجد, وجزء منها يوجه في خطبة الجمعة التي تكون في المساجد الكبيرة لاستيعاب عدد كبير من المواطنين, أما عن القوافل السابقة فكان لها أثر إيجابي وقوبلت بالترحاب الواسع الذي يعبر عن الحب العميق للأزهر وشيخه وعلمائه ومكانة الأزهر في قلوب الناس, لما يتسع به من وسطية واعتدال. تعاون مشترك ويقول الدكتور عباس عبداللاه شومان عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية للبنين بالقاهرة, والأمين العام لهيئة كبار علماء الأزهر الشريف, إن آليات نجاح هذه القوافل حددها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر في اجتماعه بالعلماء المشاركين في هذه القوافل, وهو يعلن انطلاقها علي بركة الله من مشيخة الأزهر, وعلماء القوافل تم انتقاؤهم ومعروفون بالاستقلال عن جميع التيارات السياسية, والدينية التي لا تلتزم النهج الأزهري, والفكر الوسطي, وتم التركيز علي القضايا التي تهم واقع الناس ومعيشتهم وعلاقاتهم فيما بينهم, والبعد عن الشأن السياسي, والتركيز علي الجانب الدعوي, وبيان تعاليم الإسلام السمحة ومنهجه الوسطي, لينكشف الفكر الزائف من دون التعرض له أو لأصحابه, وإنما ترك الناس ليميزوا بين الصحيح والفاسد من تلقاء أنفسهم, وجعل الأولوية في وجهات القوافل للأماكن التي تعاني نقصا في الخطاب الدعوي المعتدل, أو تلك التي تعاني من تغلل وانتشار الفكر المتطرف. وأشار الدكتور شومان إلي أن التعاون المشترك بين الأزهر والأوقاف يحقق التكامل بين مؤسسات الدولة لاسيما ذات النشاط الواحد, وهي المؤسسات الدينية, ولا يخفي أثر ذلك في تضييق بل القضاء علي التضارب, والتناقض بين القائمين علي الخطاب الدعوي, وأيضا يوجد تنسيق جيد مع دار الإفتاء المصرية والاستعانة بخبرتها التدريبية في مجال آخر من مجالات الدعوة وهو تدريب مجموعة مختارة من وعاظ الأزهر علي الإفتاء, وأستطيع القول أن هذه الفترة علي ما فيها من اضطرابات سياسية وقلائل أمنية, تشهد تلاحما رائعا بين الجهات الدينية والدعوية الرسمية,وهي الأزهر بكامل هيئاته, والأوقاف, والإفتاء وهو ما سيثمر قطعا ثمارا طيبة في المرحلة المقبلة. ويؤكد الدكتور شومان أن الأزهر استعاد بالفعل دوره الريادي والتاريخي كقائد للتنوير والفكر الوسطي, وهذه القوافل ما هي إلا مظهرا من مظاهر استعادة الأزهر لدوره التاريخي, في نشر الفكر الوسطي, وهناك ملامح كثيرة ظهرت بجلاء في ثبات مواقف الأزهر لاسيما في الأزمات الأخيرة, ووقوفه علي مسافة واحدة من جميع أطياف النسيج الوطني للمجتمع المصري, وحرصه في خطابه علي نبذ العنف أيا كان مصدره, وتحريم دماء المصريين, وأموالهم, وأعراضهم, وتغليب المصلحة العامة علي الخاصة, ولذا نجد التجاوب والقبول حيثما توجهنا والتفاف الناس وحسن استقبالهم لعلماء الأزهر, ومطالبتهم بتكثيف الجهود, وتكرار الزيارات للاستفادة من علمهم,وعدم تركهم لمن يحملون فكرا زائفا مضلا. ويطالب الدكتور محمد الأمير أبو زيد عميد كلية الدراسات الإسلامية والعربية بالمنصورة, بتعميم هذه القوافل وأن تنقل من المساجد إلي جميع الهيئات والمؤسسات ومراكز الشباب لأن الدعوة الإسلامية ليست في المسجد فقط, كما أن الظروف التي تمر بها البلاد في الفترة الراهنة تتطلب أن يقوم الدعاة والعلماء بدور هم وواجبهم في تصحيح المفاهيم والوجود بين المواطنين وخاصة الشباب في أماكن تجمعهم, تيسيرا عليهم واهتماما بشأنهم, ولابد من اختلاط الدعاة بالمواطنين والشباب, وأن يكون التركيز في هذه الجولات الميدانية علي القضايا المعاصرة التي تهم جميع فئات المجتمع, بل يكون الهدف مخاطبة الجميع وتوضيح منهج الإسلام في التعامل مع القضايا الساخنة, كما أن هذه القوافل لن تلقي نجاحا إلا بالتعاون وتضافر الجهود بين جميع مؤسسات الدولة المختلفة.