لا يمكن الحديث عن المصالحة في وقت ينتشر فيه العنف والإرهاب, بهذه الكلمات, استهل المستشار عادل ماجد نائب رئيس محكمة النقض حواره ل الأهرام, وفيه أكد أيضا أن وجود منظومة شاملة لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان لن يتحقق سوي بالكشف أولا عن الحقائق بالشفافية لا تقبل التأويل, ووضع أسس للمحاسبة علي جميع المستويات, سياسية وإدارية وجنائية, إضافة الي الإصلاح المؤسسي, ثم يأتي في النهاية آلية العفو والمصالحة التي تتم من خلال ضوابط تستند بدورها إلي معايير دولية وتجارب البلدان المختلفة في هذا الشأن, مع ملاحظة مهمة ألا وهي لا عفو عن مرتكبي الجرائم الجسيمة لحقوق الإنسان. وفيما يلي نص الحوار: في البداية ما المقصود بالعدالة الانتقالية؟ يقوم مفهوم العدالة الانتقالية علي أنه في البلاد التي عانت من نظم استبدادية أو قمعية, أو التي شهدت صراعات داخلية بين فئات المجتمع, فإنه من اللازم عليها وكي تجتاز مرحلتها الانتقالية بنجاح, لابد أن تكون لديها منظومة شاملة لمواجهة انتهاكات حقوق الإنسان التي تم ارتكابها في حق الأفراد والجماعات. ما أهم آليات العدالة الانتقالية المتعارف عليها في الدول المختلفة؟ أولي هذه الآليات, هي كشف الحقيقة, وهنا لا يعني كشفها للضحايا والأفراد بل للمجتمع, وثانيها هي المحاسبة وتتمثل في توقيع جزاءات سياسية كالعزل السياسي أو جزاءات إدارية كالعزل من الوظيفة, أو جزاءات جنائية عن طريق المحاكمات الجنائية الوطنية أو الدولية, وثالثها هي آلية جبر أضرار الضحايا التي لا تقتصر فقط علي التعويض المادي والمعنوي بل تشمل كل صور جبر أضرار الضحايا من إعادة الحال الي ما كانت عليه, وإلغاء الأحكام الجائرة وإعادة التأهيل والدمج في المجتمع, وتوفير الخدمات الصحية والإنسانية التي تلزم الضحية وتأتي بعد ذلك آلية الإصلاح المؤسسي, وتتلخص في مراجعة ممارسات مؤسسات الدولة التي تورطت في ارتكاب انتهاكات حقوق الإنسان ومحاولة إعادة هيكلة تلك المؤسسات وإصلاح التشريعات الخاصة بها, وتأهيل الكوادر العاملة بها بما يمنع ارتكاب أي انتهاكات, تأتي بعد ذلك آلية تخليد ذكري الضحايا وحفظ الذاكرة الجماعية ثم آلية العفو والمصالحة. هل هناك ضوابط لتطبيق آلية العفو والمصالحة؟ بطبيعة الحال فإن هناك ضوابط تستند الي المعايير الدولية السيادية وتجارب الدول في هذا الشأن, وهي تقوم أساسا علي عدم إمكان العفو عن مرتكبي الجرائم الجسيمة لحقوق الإنسان, إذ إن ذلك يوجد مجالا لسياسة الإفلات من العقاب, وأنه لايمكن العفو عن جرائم الدم بصفة عامة إلا اذا تم ذلك عن طريق رضاء من ذوي الضحية. وهنا لابد من الإشارة الي أن التسلسل المنطقي لآليات العدالة الانتقالية, يكون عادة بتطبيق كشف الحقيقة والمصارحة ثم المحاسبة, أو العفو تمهيدا للمصالحة وبطبيعة الحال لا يمكن الحديث عن المصالحة في ظل انتشار العنف بالمجتمع, فالمصالحة تستوجب التزام أطراف الصراع بوقف العنف ونبذه وإلقاء السلاح, وإبداء الرغبة في الجلوس الي مائدة الحوار والاتفاق علي الثوابت الوطنية تمهيدا لتطبيق آليات العدالة الانتقالية, للوصول الي هدفها الأسمي وهو المصالحة. وهل تختلف العدالة الانتقالية الواجبة في مصر عن تجارب الدول الأخري؟ ليس هناك نموذج محدد واحد قابل للتطبيق علي جميع الدول التي تمر بالمراحل الانتقالية, وعلي كل دولة اختيار الآليات التي تصلح للتطبيق لديها وتتناسب مع السياق السياسي والمجتمعي السائد, ويجب أن يكون اختيار تلك الآليات نابعا أساسا من الإرادة الشعبية وليس انطلاقا من مشيئة النظام الحاكم, والملاحظة الأولية أن الوضع في مصر يشكل صورة غير مسبوقة في فقه العدالة الانتقالية, لأن النماذج التي تم تطبيقها في الدول المختلفة تتعامل فقط عادة مع نظام واحد, أما في مصر فالوضع مختلف لأننا في الوضع الحالي نتعامل مع نظامين متعاقبين سقطا بعد ثورات شعبية عارمة, وبالتالي فإن العدالة الانتقالية في مصر هي عدالة مركبة ومعقدة يستلزم التطبيق الأمثل لها إجراء دراسات مستفيضة ومتعمقة في العديد من المجالات السياسية والمجتمعية, لكي نتوصل الي الآليات المثلي القابلة للتطبيق في المجتمع, بما يناسب الخصوصيات الوطنية وفي حقيقة الأمر أنه بسبب تنوع انتهاكات حقوق الإنسان, في ظل النظامين الأسبق والسابق, فإن الأمر في مصر يتطلب تطبيق سائر آليات العدالة الانتقالية. لماذا تعثر تطبيق العدالة الانتقالية في مصر؟ يبدو أن الإرادة السياسية لم تكن متوافرة عقب سقوط النظام الأسبق, كما أن عدم الإلمام الكافي بأهمية تطبيق موضوع العدالة الانتقالية في ذلك الوقت, وانتقاء بعض أطراف مفاهيم للعدالة الانتقالية غير صحيحة تتوافق مع اتجاهاتهم السياسية أو الحزبية, وفي بعض الأحوال مصالحهم الخاصة قد ترتب عليها وقوع لبس شديد لدي المواطن العادي بشأن حقيقة مفهوم العدالة الانتقالية, فضلا عن أن عدم إلمام بعض الجهات بجوهر العدالة الانتقالية وما يرتبط به من مفاهيم أخري, كالمصالحة الوطنية أيضا, عدم وجود الخبرة الكافية لديها لتطبيق تلك المفاهيم, قد ترتب عليها تطبيقها بطريقة خاطئة علي النحو الذي تم بشأنه نحو المصالحة الوطنية, مما أثار حفيظة المجتمع وأثر سلبا علي مسيرة العدالة الانتقالية في مصر, فضلا عن ذلك فإن التطبيق الأمثل لمفاهيم العدالة الانتقالية, يتطلب وجود إطار مؤسسي شامل يقوم علي قانون للعدالة الانتقالية يكون محل توافق مجتمعي, تضطلع بتطبيقه هيئة محايدة ومستقلة تحوز ثقة جميع أطياف المجتمع, وهو الأمر الذي لم ننجح في تنظيمه حتي اليوم. ما هي الأسباب الأساسية لحالة الانقسام التي شهدها المجتمع من منظور العدالة الانتقالية؟ لو أمعنا النظر في الأسباب التي أدت الي زيادة حالة الاحتقان بين أطياف المجتمع, سوف نتأكد أن الإخفاق في محاكمات قتلة الثوار وعدم معرفة حقيقة العديد من الأحداث والوقائع التي سبقت وعاصرت وتلت ثورة ال25 من يناير المجيدة, وكشف النقاب عنها كانت الدافع الرئيسي للمظاهرات والاحتجاجات التي عمت الشارع المصري التي زاد منها حالة الانقسام المجتمعي الحالي التي روج لها النظام السابق علي أساس ديني, ببث أفكار مذهبية وطائفية غريبة علي قيم وتقاليد المجتمع المصري أوجدت شعورا عاما بالإقصاء بين أطيافه, فاشتعلت أحداث عنف من نوعية جديدة, تقوم علي أساس من التمييز الديني سقط خلالها المزيد من الضحايا وهذه الظاهرة خطيرة ومستحدثة علي المجتمع المصري من الممكن أن تتصدي لها آليات العدالة الانتقالية. هل مصر في حاجة الي وزارة أم مفوضية للعدالة الانتقالية؟ في حقيقة الأمر, لقد استبشرنا خيرا بإنشاء وزارة للعدالة الانتقالية بحسب أنها تمهد الطريق لوضع منظومة العدالة الانتقالية, فالتطبيق الأمثل للعدالة الانتقالية يتطلب وجود هيئة عليا مستقلة علي النحو الذي حدث في جميع الدول التي مرت بمراحل انتقالية, فلم نسمع في أي من تلك الدول عن قيام وزارة لتطبيق آليات للعدالة الانتقالية وأن التجارب الناجحة جميعا قامت علي انشاء هيئة مستقلة ومحايدة للعدالة الانتقالية ينظم تشكيلها واختصاصاتها بقانون, وميزة هذا القانون أنه يحيط الإجراءات بسياج من المشروعية القانونية بحيث ننأي بها عن التحكم والاستبداد ويحيط الشعب بأحكامها وأهدافها, بما يضفي علي الإجراءات صفة الشرعية ويجنب البلاد التحكم والعشوائية. ما هي أهم القواعد التي يجب مراعاتها عند إعداد قانون العدالة الانتقالية؟ عند إعداد قانون العدالة الانتقالية, يجب أن يراعي احتياجات ومتطلبات المجتمع, بحيث تحدد أطياف المجتمع المختلفة الاطار القانوني للعدالة الانتقالية الواجبة التطبيق, ومن ثم فيجب قبل إعداد مشروع هذا القانون إعداد الدراسات اللازمة بشأنه والاطلاع علي التشريعات المقارنة التي صدرت في دول أخري, والتحاور والتشاور بشأنه بين جميع أطياف المجتمع لضمان صياغته وفقا لأعلي المعايير الدولية, محققا التوازن بين آليات القصاص والمصالحة مستجيبا للخصوصيات الوطنية. ما أهم محاور مشروع القانون الذي قمتم بإعداده في هذا الشأن؟ هناك عدة تساؤلات أساسية يجب الإجابة عنها عند إعداد قانون العدالة الانتقالية, وهي تشكل في حقيقة الأمر محاوره الأساسية ومن أهم تلك المحاور, كيفية تشكيل واختصاصات الهيئة التي سوف تضطلع بتطبيق آليات العدالة الانتقالية وتعريفها والمراحل الزمنية والجرائم التي تشملها ونوعية الآليات التي يتبناها القانون, وهي مسائل قمنا بالفعل بتفصيلها في مشروع هذا القانون ويتضمن القانون فصولا تسعة أساسية, أولها توضح فيه التعريفات والمفاهيم الأساسية للعدالة الانتقالية, وثانيها, يوضح كيفية إنشاء وتشكيل اختصاصات هيئة أو مفوضية العدالة الانتقالية المنوط بها تطبيق العدالة الانتقالية, والشروط والمعايير الواجب توافرها في أعضائها, كما ينظم اختصاصات اللجان الفرعية, وهي لجنة تقصي الحقائق وكشفها والمحاسبة والعفو وجبر أضرار الضحايا, كما يحدد القانون المهام القضائية والمحاكم المنوط بها تطبيق آليات المحاسبة وضوابط العفو والمصالحة, وأخيرا العقوبات الواجب تطبيقها في حالة مخالفة أحكام القانون. ما هي أهم مميزات مشروع القانون؟ أنه تناط آليات لتطبيق العدالة الانتقالية بجهة محايدة ومستقلة ويوفر آليات ناجزة في كشف الحقيقة, ويحقق التوازن بين متطلبات المصالحة وأولويات القصاص ويولي اهتماما خاصا بحقوق الضحايا, ويضع شروطا وقواعد محددة لتضييق آليات العفو والمصالحة, كما يوفر إجراءات تعمل علي معالجة حالة الاحتقان والاستقطاب الحاد التي ضربت أطناب المجتمع فضلا عن أنه سيتم في مكافحة سياسات التمييز ويعمل علي نشر ثقافة حقوق الإنسان. كيف يتم تجنيب توظيف العدالة الانتقالية لتحقيق مكاسب سياسية؟ من أخطر الظواهر التي شهدها المجتمع المصري بعد ثورة ال25 من يناير, محاولة استخدام القانون لتحقيق مصالح سياسية مما أثر سلبا علي مسار العدالة في مصر, ومن أخطر ما شاهدناه أن يحاول بعض القانونيين تكريس خبراتهم القانونية لخدمة مصالح حزبية خاصة, وفي الدول الديمقراطية فإن القانون هو الذي يحدد السياسات العامة وليس العكس, وبطبيعة الحال فإن عدم الفهم الكامل والإدراك التام لمفهوم العدالة من الممكن أن يؤدي الي إساءة استخدامه لتحقيق أهداف سياسية, وهو الأمر الذي يحاول عادة الخبراء المختصون في مجال العدالة الانتقالية تجنبه وان اصدار قانون شامل في مجال العدالة الانتقالية يحدد الضوابط والشروط اللازمة لتطبيق آلياتها, وسوف يعمل علي تنقية مفهوم العدالة الانتقالية مما قد يشوبه من أغراض أو توجهات تحيد به عن مساره الصحيح, ويجنب اتخاذه ذريعة لترويج أهداف سياسية أو مصالح حزبية أو طائفية. ما أهمية إنشاء محاكم العدالة الانتقالية وهل ستكون بمثابة خاصة أو استثنائية؟ لقد قمنا بالفعل بتضمين مشروع القانون الذي قدمته لنادي القضاة, فصلا خاصا بمحاكم العدالة الانتقالية, لأن مفهوم العدالة الانتقالية يتطلب وجود قضاة متخصصين يمكنهم الإلمام بآليات العدالة الانتقالية, وأهدافها وتطبيق الأحكام الخاصة بها علي أكمل وجه, بحيث ينحصر الاختصاص بنظر الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي يشملها أو يغطيها القانون, وتلك المحاكم تعد بهذه المثابة محاكم متخصصة وليست محاكم استثنائية, وتختص دون غيرها بما يعمل علي توحيد المبادئ القانونية المتعلقة بهذا المجال الحديث من القانون, كما أن الإجراءات أمام المحاكم الانتقالية تستلزم وجود قضاة علي إدراك واف بكيفية التعامل مع ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان, وبصفة عامة فإن الفترة الانتقالية الحالية تستلزم إعداد كوادر وطنية متخصصة في مجال العدالة الانتقالية, بما يسمح بتطبيق إجراءاتها علي الوجه الأكمل, وإنجاح مسيرة العدالة الانتقالية. وأخيرا ما الضمانة لعدم تحويلها الي عدالة انتقامية أو انتقائية؟ من المهم عند تبني مفهوم العدالة الانتقالية, وتطبيق آلياتها إعلاء مصلحة الوطن والابتعاد عن المكابرة والمغالبة, التي تسوغ الثأر والانتقام والتشفي, وكذلك الإعراض عن سياسات التخوين والنأي عن الأهواء الشخصية بما يسهم في تحقيق أهداف العدالة الانتقالية وارساء مبادئ سيادة القانون, لضمان التحول الحقيقي للديمقراطية في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة التي تمر بها بلدنا الغالية مصر.