المصالحة مصطلح واسع فضفاض له العديد من المعاني والأبعاد الفلسفية والنفسية والمجتمعية والسياسية والقانونية والدينية, ومن يتعامل معه يجب أن يكون علي دراية كافية بأبعاده المختلفة والمسار الصحيح لتطبيقه وإلا تم النيل من مصداقيته, بل من وطنيته في بعض الأحيان! والمصالحة الوطنية عملية معقدة تتطلب دراسات متعمقة وتطبيقا فاعلا لآليات العدالة الانتقالية, فلا يمكن تحقيقها بدون محاسبة حقيقية للجناة وقصاص عادل للشهداء, وتطهير مؤسسات الدولة من المفسدين والمجرمين, وكشف حقيقة ما حدث من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان, وإرضاء للضحايا, وحفظ للذاكرة الجماعية, بالإضافة إلي العديد من الشروط الأخري التي أوردناها في مقال سابق تحت عنوان أصول المصالحة الوطنية منها أهمية اختيار التوقيت المناسب للمصالحة, فلا يمكن الدعوة للمصالحة والدماء تسيل علي الطرقات والعنف مستعر في الشارع, وهو الأمر الذي أكدته العديد من النظريات والدراسات في هذا المجال. لذلك فلم يكن مستغربا ألا يتمخض مؤتمر المصالحة الوطنية الذي تم عقده فور تولي الحكومة الانتقالية السلطة عن نتائج تذكر. وتلي ذلك سماع أصوات غريبة تطالب بالعفو عن رموز النظامين السابقين. لذلك لم يكن مستغربا أيضا أن يقرر السيد رئيس مجلس وزراء الحكومة الانتقالية في حديث له أخيرا أن المصالحة الوطنية أصبحت مصطلحا سييء السمعة. وقد استوقفني هذا القول كثيرا لأنه قد يفهم منه وهذا ما لا يقصده يقينا سيادته أنه يفرغ مفهوم المصالحة من معانيه السامية ويقوض أسس المفاهيم المرتبطة به مثل: الاعتذار والتسامح والعفو وبناء السلام والتعايش السلمي والعدالة التصالحية, وبالتالي فلا يكون هناك موجب للحديث عن تطبيق مفهوم العدالة الانتقالية في مصر مادام الهدف الأساسي لها هو تحقيق المصالحة الوطنية, ولا يكون هناك حاجة لوجود وزارة للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية. والتساؤل الذي يجب أن نطرحه علي أنفسنا في هذه المرحلة الحرجة والدقيقة التي يمر بها الوطن هو: ما الذي أدي إلي إطلاق هذا الوصف السلبي علي المصالحة وهي قيمة جليلة وهدف نبيل, حث عليها المولي عز وجل وعمل بها الرسول الكريم ودعا اليها الإنجيل وترسخت في قيم الشعب المصري العظيم. هل هذا ناتج عن سوء فهم المصطلح واستيعاب معانيه أم عن سوء تطبيقه, أم عن كليهما معا, وهل يجب أن نغض الطرف عن هذا المصطلح ونخرجه من قاموسنا اللغوي أم أنه يحتاج للمزيد من البحث والدراسة, خاصة أن معانيه وأهدافه قد تختلف من شخص إلي آخر ومن مجتمع إلي آخر. لقد أثبتت التجارب في الدول التي مرت بتجارب مماثلة أنها لم تتمكن من تحقيق الاستقرار والسلم الاجتماعي إلا بعد وقف العنف وتحقيق المصالحة الوطنية. فألمانيا الغربية التي عانت من ويلات النظام النازي المستبد تمكنت من تحقيق الاستقرار المجتمعي والمصالحة بين أطياف الشعب بعد المحاسبة الدقيقة لرموز هذا النظام, وجنوب إفريقيا التي ذاق السود فيها العذاب من نظام قمعي عنصري, تمكنت أيضا من بلوغ المصالحة استنادا الي قيم التسامح المسيحية والإرادة المجتمعية السوية. حتي الجزائر التي عانت من إرهاب أسود دام سنين طويلة سقط خلالها ما يجاوز المائة وخمسين ألف قتيل تمكنت من اجتياز المأساة الوطنية علي حد تسمية الحكومة الجزائرية لها في ذلك الوقت بعد استفتاء شعبي عام علي الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية وإصدار حزمة من قوانين العدالة الانتقالية لتفعيله. ويبدو أن اليمن التي لحقتنا في ثورتها قد سبقتنا في اختيار المسار الصحيح للحوار الوطني, فبدأت في عقد مؤتمرات فرعية للحوار الوطني والمصالحة المجتمعية في المحافظات تمهيدا لعقد موتمر وطني شامل للمصالحة بين كافة الأطراف المعنية, وخرجت الحكومة الحالية في تحرك مشهود لتقدم اعتذارا رسميا للجنوبيين ولسكان محافظة صعدة معقل المتمردين الحوثيين عما لحق بهم من ظلم إبان نظام الحكم السابق, بهدف تحفيز الحوار الوطني ودفعه قدما, وبحسب الحكومة اليمنية فإن الاعتذار يأتي إدراكا بأن تحقيق المصالحة الوطنية شرط أساس للسلام الاجتماعي. وهناك العديد من التجارب الأخري المماثلة في دول أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية لا يتسع المقام هنا لشرحها. وخلاصة تلك التجارب تؤكد أنه لا يمكن تحقيق الاستقرار في مجتمعات ما بعد الثورات إلا من خلال إطار مؤسسي ناجز وعن طريق منظومة متكاملة للعدالة الانتقالية تتكون من استراتيجية وطنية شاملة وقوانين حديثة تسهب في معالجة آليات العدالة الانتقالية واجبة التطبيق وتحدد الجهات القائمة عليها. والمعضلة الحقيقية التي تواجه الحكومة الانتقالية الحالية تكمن في الموازنة بين آليات المحاسبة والمصالحة. وكل ما تقدم يوضح لماذا أصبح مصطلح المصالحة يوسم بأنه سيئ السمعة! فسوء اختيار توقيت وآليات المصالحة, وعدم التحديد الدقيق لأطرافها, ودعوة البعض إلي العفو أو التصالح مع دعاة العنف والإرهاب, أفقد الشعب الثقة في كنه وذات المصطلح, فأصابته حالة من اللبس والسيولة, وأصبح استخدامه يستفز أطيافا عديدة من المجتمع. ولذلك فإن المنطق السليم يحتم علينا الآن الاطلاع علي تجارب الدول الأخري التي مرت بظروف مشابهة, لنستخلص من تلك التجارب ما يصلح للتطبيق علي أرض الواقع ويتماشي مع خصوصياتنا الوطنية. فالأنظمة الناضجة تضرب بيد من حديد علي دعاة العنف والإرهاب ولكنها لا تسد الطريق أمام من يريدون نبذ العنف والعودة الي الصف الوطني. وختاما فإنني أدعو أعضاء لجنة الخمسين المنوط بها صياغة دستور مصر الجديد إلي تبني النصوص اللازمة التي تضمن إعادة بناء العلاقات بين أطراف المجتمع وتحقيق التعايش السلمي بين أطيافه, عن طريق إنشاء مفوضية عليا مستقلة ومحايدة للعدالة الانتقالية, تعمل علي اتخاذ ما يلزم من إجراءات وتدابير لمحاسبة رموز الأنظمة المستبدة وكشف حقيقة ممارساتها مع القصاص العادل للشهداء وجبر أضرار الضحايا وحفظ الذاكرة الوطنية, بحيث تكون تلك النصوص النواة لعمل مؤسسي صحيح يحقق العدالة ويسهم في بلوغ الوحدة الوطنية. لمزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد