إن المصالحة الوطنية نتيجة حتمية تمر بها عادة الدول التي تعاني من خلافات جذرية أو صراعات داخلية, وهي تعد من أهم مفردات أي تسوية سياسية تنشأ علي أساسها علاقة قائمة علي التسامح والعدل بين الأطراف السياسية والمجتمعية بهدف طي صفحة الماضي وتحقيق التعايش السلمي بين أطياف المجتمع كافة. وقد أثبتت التجارب في العديد من الدول أنه لا يمكن بلوغ المصالحة إلا بعد وقف العنف, وإقرار العدالة, فلا سلم بدون عدالة. وهناك بعض الدول التي ركنت في المراحل الانتقالية إلي آلية المصالحة لتحقيق السلم الاجتماعي, ولعل تجربة جنوب إفريقيا توفر أفضل الممارسات في هذا الشأن. وأهم ما ميز هذه التجربة أنها اعتمدت علي آلية خاصة لبلوغ المصالحة الوطنية تقوم أساسا علي إقرار الجاني بما ارتكبه من انتهاكات وتجاوزات واعتذاره وقبول اعتذاره ممن يملك ذلك كشرط للحصول علي العفو. والتجارب الدولية تدلل أيضا علي أن العفو عن الجرائم ذات الطابع السياسي قد يكون خيارا متاحا أو حافزا للتخلي عن العنف وضمان استحضار الفرقاء إلي مائدة الحوار, كما حدث في الجزائر بإصدار الميثاق من أجل السلم والمصالحة الوطنية والذي تمت المصادقة عليه في استفتاء شعبي عام2005 بما ساهم في وقف العنف من جانب تيارات الإسلام السياسي, ومهد لإصدار قانون شامل للمصالحة الوطنية عام2006, نص علي شروط العفو وأصول المصالحة. والمعضلة الحقيقة التي تكمن في المشهد المصري هي تعدد المراحل الانتقالية وأطراف المصالحة الوطنية. ومن ثم تتعدد صور المصالحة المطلوبة, فهناك مصالحة يجب أن تجري بين رموز النظام الأسبق وبين فئات عديدة من المجتمع المصري ممن ذاقوا الظلم أو التعذيب أو الاعتقال قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير المجيدة, ويتفرع عنها مصالحة بين ضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان التي وقعت في ظل هذا النظام وبين رموز القوي الأمنية التي ارتكبت تلك الانتهاكات, ومصالحة أخري مع الأخوة المسيحيين جراء أحداث العنف التي ألمت بهم وسقط خلالها العديد من القتلي والمصابين, فضلا عن المصالحة مع العديد من الفئات التي عانت من الإقصاء والتهميش. وتأتي بعد ذلك المصالحة الكبري التي تهدف إلي إزالة حالة الاحتقان الطائفي والانقسام المجتمعي الحاد الذي روج له رموز النظام السابق ونتج عنه صدامات دموية بين أنصاره وغيرهم من أطياف الشعب المصري, تطورت إلي ارتكاب جرائم الإرهاب من جانب أنصار هذا النظام كما هي معرفة في الاتفاقيات الدولية والقوانين الوطنية. ومما يؤسف له أن النظام السابق قد نجح في بث روح الفرقة بين أبناء المجتمع الواحد علي أساس ديني- طال أبناء المذهب الواحد فخلق حالة استقطاب مجتمعي حاد, بالمخالفة لمواثيق حقوق الإنسان السارية التي تحظر التمييز بسبب العرق, أو اللون, أو الجنس, أو اللغة, أو الدين, أو الرأي, أو الأصل القومي أو الاجتماعي, أو الثروة, أو النسب, أو غير ذلك من الأسباب, وبالمخالفة أيضا لما أرسته الشريعة الإسلامية من قيم التسامح والعفو والعدل والإحسان, والمصالحة الواجبة تستلزم بداية الكشف عن حقيقة الوقائع والأحداث الدموية التي راح ضحيتها الآلاف من أبناء الشعب المصري بين قتيل وجريح في أرجاء الوطن, وتقصي جذور العنف وأسباب الفرقة والانقسام بمختلف أبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية بما يسمح بمعالجتها واتخاذ التدابير اللازمة للتغلب عليها واستئصال جذورها بصورة تسهم في الانتقال المتدرج بالمجتمع إلي الاستقرار والسلم الاجتماعي, وهي كلها أمور لا يمكن أن يتسع لها مؤتمر أو أكثر, فما يمكن إنجازه في تلك المؤتمرات والاجتماعات هو استشراف الإجراءات اللازمة لوقف ونبذ العنف وتحديد الأولويات والاتفاق علي الآليات التي يجب اتباعها لجمع الأطراف المعنية وتحقيق المصالحة الوطنية التي يحسن أن تتم تحت لواء العدالة الانتقالية. وللمصالحة مقدمات أساسية تتمثل أساسا في:(1) تحديد أطراف المصالحة(2) استشراف مدي استعداد جميع الأطراف للوقف الفوري لأعمال العنف والانخراط في عملية المصالحة(3) اختيار الوقت المناسب للمصالحة(4) تهيئة الرأي العام وإيجاد الزخم الشعبي اللازم لمساندة عملية المصالحة(5) إجراء تقييم شامل لأسباب الصراع ووضع تصور واضح للقضايا محل الخلاف(6) وضع استراتيجية وطنية محددة وشاملة لمعالجة تلك القضايا مع تحديد الأهداف الاستراتيجية اللازم تحقيقها لبلوغ المصالحة والمبادرات والبرامج اللازمة لتكريس ثقافة الحوار وتحقيق الوئام والوفاق بين أطياف الشعب المختلفة(7) وضع خطة زمنية لمراحل وإجراءات المصالحة(8) البناء علي الجهود والمبادرات السابقة مثل وثيقة الأزهر لنبذ العنف والالتزام بالحوار الوطني لحل القضايا الخلافية. وللمصالحة قواعد وشروط من أهمها:(1) الاتفاق علي الثوابت الوطنية(2) إعلاء مصلحة الوطن والابتعاد عن المكابرة والمغالبة التي تسوغ الثأر والانتقام والتشفي والإعراض عن التخوين والنأي عن الأهواء الشخصية واستحضار النية الصالحة بهدف إصلاح ذات البين(3) إجراء المصالحة في مناخ من الشفافية وسيادة القانون(4) تحري الحقيقة كاملة وكشف المظالم لضمان عدم تكرار الانتهاكات(5) التركيز علي حقوق الضحايا(6) تطبيق مبدأ التضمينية بالعمل علي تمثيل مصالح كافة أطياف المجتمع(7) تكريس مبدأ عدم الإفلات من العقاب(8) وجود جهة محايدة ومستقلة تعني بتقييم نتائج المصالحة في مراحلها المختلفة(9) اتباع إطار مؤسسي شامل للمصالحة(10) عدم السماح باستغلال المصالحة لتحقيق مكاسب حزبية. ويجب أن تتم جهود المصالحة وفقا لمنهج علمي وطريقة مدروسة تتولاها مفوضية عليا للعدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية يتمتع أعضاؤها بالحياد والاستقلال, تعمل من خلال أطر قانونية واضحة علي نحو يؤدي إلي وقف الصراعات, وتحقيق العدل وصولا إلي مصالحة وطنية حقيقية وشاملة. ومما لا شك فيه أن إنشاء وزارة مختصة بشئون العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية للتحضير للإجراءات المتقدمة يعد خطوة هامة نحو تحقيق العدالة وإرساء مبادئ سيادة القانون في هذه المرحلة الدقيقة والحرجة التي تمر بها مصر. لمزيد من مقالات المستشار.عادل ماجد