يعتبر النقاد والمهتمون بحوار الحضارات والثقافات, أن المثقفين العرب الذين يعيشون في المهاجر يمثلون جسورا قوية بين الأنا والآخر, فهم يعيشون التماس مع الآخر الذي هو جزء من وجودهم, ولعل الدكتور أنور لوقا الذي عمل كأستاذ في ليون وشغل منصب أستاذه جان ماري كاريه, كما عمل في عدة جامعات غربية, يعتبر واحدا من هؤلاء المثقفين العرب الذين كتبوا عن الأنا وعن الآخر بوعي كبير, ومعرفة عميقة للمواضيع التي تناولها, أي يلعب دور الوساطة الثقافية, وهذا ما نراه في الكتاب الذي صدر حوله بعنوان:' أنور لوقا والاستغراب الإيجابي', الصادر حديثا(2013) القاهرة عن المركز العربي للدراسات الغربية, ويقع في135 صفحة من الحجم المتوسط, وهو عبارة عن مجموعة من المقالات والأبحاث التي تطرقت إلي الدكتور لوقا من جوانب متعددة, إذ ساهم في هذا الملف التكريمي مفكرون وكتاب من المغرب والمشرق العربي, والكل يتفق علي أن أنور لوقا قدم مساهمات كبيرة في ترجمة الأدب العربي إلي اللغة الفرنسية, خاصة بعض كتب الدكتور طه حسين, وتوفيق الحكيم, ولكنه وقف عند المصلح رفاع رافع الطهطاوي كثيرا, وخصص له عدة أبحاث من ضمنها رسالة دكتوراه, وهو مولع بهذا المصلح وبأفكاره المتقدمة, ومعجب كثيرا بطه حسين, حتي أنه سجل رسالة دكتوراه معه, غير أن العميد كلف بأن يكون وزيرا للمعارف, مما ترك أنور لوقا يرحل إلي باريس ليعد رسالة في الأدب المقارن, ولذا فإن الأستاذ أحمد الشيخ الذي قام بتقديم للكتاب يؤكد علي أن أنور لوقا, وغيره من المثقفين العرب في المهجر يقفون' علي الحدود بين الثقافات في زمن الحروب الثقافية وصدام الحضارات الذي يعلو حينا ويهبط حينا آخر, لكن جذوته لا تزال ثاوية تحت الرماد تنتظر حدثا من هنا أو هناك لتشتعل من جديد'. أما الدكتور نزار التجديتي, فهو يري بأنه' إن كان الأستاذ إدوارد سعيد قد تتبع بدقة نشأة نظرة الغرب للشرق محللا ومنتقدا الذات المركزية الغربية, ثم وقف مليا عند أبشع مظاهر الامبريالية في الثقافة الأمريكية, فإن الأستاذ أنور لوقا ركز أكثر علي علاقات الاتصال والاكتشاف والتحاور بين العرب والغرب'. ولقد جسد الدكتور لوقا هذه العملية في أبحاثه بحيث بحث من خلالها علي تطور حركة التبادل بين مصر والغرب دراسة تاريخية مقارنة بجلاء ظاهرة المؤثرات المختلفة بين الشرق والغرب'. اهتم لوقا بدراسة المؤثرات التي تربط الفضاءين وتتبع ذلك عبر الرحالة الفرنسيين الذين ذهبوا إلي مصر, أو المصريين أو العرب الذين جاؤوا إلي فرنسا, ودرس إمكانية التحاور والتبادل عبر ترجماته لبعض الكتاب الغربيين وعلي رأسهم الفرنسيين أمثال لا برويار وبلزاك. وبيير نيس, كما خصص رسالة الماجستير عن رحلة رفاعة الطهطاوي إلي باريس, ورسالة دكتوراه بعنوان:' رحالة وكتاب مصريون في فرنسا', كما ترجم إلي الفرنسية كتاب الطهطاوي تخليص الإبريز في تلخيص باريز, إذ تؤكد الدكتورة كاميليا صبحي علي أن لوقا(1927-2006) المولود في صعيد مصر كان عمل علي خطي الكبار وقدم الكثير وهي تري إن كان رفاعة وطه حسين قد أسهما إسهاما حاسما في تحديث الفكر الفلسفي, فقد أسهم أنور لوقا في إبراز هذا الدور والتأكيد عليه من خلال كتاباته, ونشر فكرهم التنويري في جميع المدن الأوروبية التي حل بها, وأثري, ليس فقط المكتبة العربية وإنما الفرانكفونية أيضا, بأعمال عن الثقافة العربية التي عاش- رحمة الله عليه- خير سفير لها. أما الدكتور منجي الشملي فيري بأن أنور لوقا واكب المعارف واهتم بالإضافة إلي الأدب المقارن بأحدث' المناهج في تحليل الخطاب أو عن أطرف التيارات في حقل الترجمةيحذوه حب للمعرفة لا يعرف قيودا'. وهذا ما يؤكد عليه الدكتور محمد أنقار الذي يري بأنه في آن واحد' مؤرخ للأدب وللأفكار والحضارة ومقارن ومحلل للنصوص وبلاغي ومترجم وناقد أدبي وما إلي ذلك من الميادين التي تتكامل بينها أكثر مما تتنافر'. عرف أيضا أنور لوقا بترجماته من وإلي اللغة الفرنسية وخاصة دوره الكبير في الأدب المقارن, هذا ما يتطرق إليه الدكتور عبد النبي ذاكر الذي يري بأن لوقا من الرعيل الأول الذي بذر الجنينية للدرس الأدبي المقارن بالشرق العربي'. لان الدكتور لوقا يري بأن' الأكرم لنا أن نظل مستغربين علي السليقة أي مستوعبين لعلاقتنا بالغرب, ونحن واثقون من أنفسنا ونسلك سلوك أنداده'. ويعرف كيف يحاورنا الند للند, ولا يملي علينا نظراته وتوجهاته المنطلقة من خدمة مصالحه بالدرجة الأولي, وهذه مسألة وعي بها المثقفون العرب المغتربون, لأنهم يمارسون هذا الحوار بشكل يومي كل في تخصصه, ويعطي الدكتور لوقا أهمية قصوي للترجمة, إذ يري بأنها تضمن الاستغراب الإيجابي باعتباره دفقه دم جديدة تضاف إلي كياننا الثقافي, دون إخلال بتوازنه. أما الدكتور عمر مقداد الجمني فيؤكد علي أن الدكتور لوقا كان من أوائل القائلين علي أن' النهضة لم تكن أثرا لحملة نابليون بونابرت علي مصر(1797) ولكنها أثرا لبعثة1826 وتحديد أثرا لفكر الطهطاوي, لأنه وحسب لوقا أن المؤرخين' دأبوا علي تضخيم النتائج المباشرة لحملة بونابرت, وهذا ما تمتلئ به الكتب المدرسية ومراجع التاريخ, ولكن الحملة الفرنسية في نظره لم تكن' إلا لقاء عنيفا بين أبناء الغرب وأبناء الشرق, ولم يتح له قصر الأجل ولا روح المقاومة الشعبية من الاستقرار مما يؤدي إلي اتصال جليل النفع'. H كاتب جزائري لمزيد من مقالات الطيب ولد العروسى