تزامنت قراءتي لرواية أحمد مراد الأخيرة الفيل الأزرق مع حصول روايته الأولي فيرتيجو علي جائزة البحر المتوسط منذ أيام, وهي أرفع جائزة أدبية إيطالية وسبق أن حصل عليها من مصر علاء الأسواني. وقد قرأت أيضا في نفس الوقت روايته الثانية تراب الماس, إضافة إلي العمل الحاصل علي الجائزة. وكان انطباعي العام أن الروايات الثلاث تتشابه في أشياء, ولكن الفيل الأزرق تعد نقلة, في انتقالها من الهم الاجتماعي إلي الفانتازيا, والغوص في عالم الأحلام والكوابيس والهلاوس, بل إلي حفرة من حفر الجحيم الشيطاني, إذ يكتشف بطل الرواية طبيب نفسي- أن القوة التي تبطش بروح وجسد صديقه القديم وزميله الطبيب النفسي الذي قتل زوجته, ليست مرض الفصام( وهو نوع من الجنون) بل أحد الشياطين السفليين تلبس روحه وجسده. والقصة ممتعة ومشوقة, لكن مشكلتها أن إطار المغامرة والحركة(Action) مفرغ هذه المرة من البعد الاجتماعي الذي يعطيه القيمة والثقل, بعكس فيرتيجو وتراب الماس اللتين تعرضان جرائم ارتكبها الفساد ومطاردات لمن ارتكبوا تلك الجرائم كما في الرواية الأولي, أو جرائم ارتكبها من نصبوا أنفسهم جلادين للفساد والإجرام انتقاما للمستضعفين. صحيح أن الفيل الأزرق فيها أحلام ملونة ورؤي عجيبة مرسومة ببراعة, ولكن هذا يدخل العمل في زمرة مدرسة الفن للفن, وهذا إن صح مع قصيدة أو لوحة تشكيلية أومقطوعة موسيقية, فمن الصعب تقبله مع رواية, خاصة في مجتمع مهيأ لتصديق الغيبيات دون مناقشة, وفي نفس الوقت مسحوق بواقع جهم وشرس. الخلاصة أن التشويق والطرافة هما في اعتقادي لا يكفيان لتقديم عمل أدبي رفيع, ولقد توصل أحمد مراد في روايتيه السابقتين فيرتيجو وتراب الماس إلي القيمة الأدبية التي تتمتع بمقبلات ومشهيات الحركة والإثارة كقيمة مضافة لا يمكن لها وحدها أن تصمد أمام اختبار الجمال الأدبي, الذي يعتمد أساسا علي هموم الإنسان وآلام وأشواق المجموع ولا يفرق بين هم الفرد وأحلام الجماعة, لأن هذا ينبع من ذاك ويصب فيه.. وإذا كنت استمتعت بقراءة الفيل الأزرق لا أنكرذلك- فإني قد استمتعت بالعملين السابقين لها أكثر, لأن العمق الإنساني امتزج فيهما بالتشويق في تركيبة نادرة أخذت من الفنون الجماهيرية ولم تسلب الأدب شيئا, أما هذه الفانتازيا الفيل الأزرق فهي جميلة ومشوقة ولكنها مغتربة تماما عن الواقع, تستمتع فيها بألوان الفنان الناعسة والفاقعة والمخيفة الحالمة الكابوسية في رؤي بارعة لكنها بلا جذور. ولا أهاجم رواية أمتعتني, ولكني أردت أن أهمس لمبدعها همسة أرجو أن يتقبلها من معجب محب لفنه: ليتنا جميعا أهل القلم- نتذكر الآية القرآنية العظيمة عن الكلمة الطيبةأصلها ثابتوفرعهافيالسماء في روايتيك الأولي والثانية ملكت الجذع والفرع معا, لكن الفيل الأزرق يحلق ويهوم دون جذع ثابت في الأرض. الروايات الثلاث صادرة عن دار الشروق.