لحسن الحظ تزامنت إحتفالات الذكري الأربعين لانتصار السادس من أكتوبر1973 بالانشغال الوطني غير المسبوق بالدستور الذي يجري إعداده الآن, وهو الانشغال الذي يعني أن المصريين مهتمين جدا أن يأتي هذا الدستور علي مستوي ما قام به الشعب من تفجير ثورتين غير مسبوقتين تاريخيا. نجاح الشعب في القيام بهاتين الثورتين يمكن اعتباره العبور المصري الثاني فإذا كان العبور الأول قد إنتقل بمصر, بعد نكبة عام1967, من اليأس إلي الرجاء وإذا كان الشعب هو البطل الأول الذي رفض الهزيمة ورفض الاستسلام وقرر أن يحارب, فإن هذا الشعب الذي حقق مع جيشه ملحمة نصر أكتوبر هو نفسه الذي فجر ثورتي25 يناير2011 و30 يونيو2013, وهذا يعني أنه لن يرضي عن النصر بديلا في معركة التغيير الثوري, ولن يقبل في معركة عبوره الثاني من دولة الاستبداد والفساد والعجز إلي الآفاق الرحبة لدولة الحرية والعزة والكرامة بأقل من حجم النصر الذي تحقق في السادس من أكتوبر.1973 وإذا كان الطريق إلي بناء هذه الدولة هو الدستور الجديد الذي يجب أن يتضمن أهم معالم ومرتكزات وأهداف هذه الدولة وسبل تحقيقها, فإننا في أمس الحاجة إلي روح السادس من أكتوبر لإنجاز هذا الدستور, نحن في أمس الحاجة إلي ادارك أمور ثلاثة أولها: إن صياغة دستور علي النحو الذي يريده الشعب ويأمله يجب أن يقوم علي قاعدة بناء دولة الثورتين: دولة العيش والحرية والعدالة والكرامة الإنسانية ودولة الاستقلال والسيادة الوطنية, وثانيها: الوعي بأن بناء هذه الدولة كي يتحول من النصوص إلي الواقع لن يكون معركة أقل ضراوة من معركة العبور في السادس من ضع ضمنا للشروط نفسها التي خضعت لها معركة العبور الأول وفي مقدمتها وحدة الشعب والجيش وامتلاك إرادة البناء كمقابل لامتلاك إرادة القتال, ونستطيع أن نضيف إلي هذه الأمور أو الشروط الثلاثة شرطا رابعا لا يقل أهمية وهو توفير بنية عربية داعمة لمعركة بناء مصر القوية المقتدرة والقادرة علي أن تكون, عن جدارة, دولة للحرية والعزة والكرامة, مع ضرورة الوعي من الآن بتوفير القدرات العسكرية والاقتصادية القادرة علي حماية هذه الدولة لأنها حتما معرضة للتهديد. ولنا أن نتذكر أن نكسة يونيو1967 لم تكن فقط بسبب التقصير العسكري السياسي ولكن كانت في الأساس مؤامرة مكتملة الأركان مؤامرة أمريكية إسرائيلية دافعها منع مصر من أن تتحول إلي دولة قوية مستقلة الإرادة قادرة علي قيادة العرب وتحدي الدولة الصهيونية وتهديد المصالح الأمريكية. تجربة النهضة المصرية الأولي التي قادها محمد علي في القرن الثامن عشر تؤكد ذلك, وتجربة النهضة المصرية الثانية التي قادها جمال عبد الناصر تؤكد ذلك ومنذ السنوات الأولي لثورة23 يوليو1952 المجيدة. هذا يلزمنا بأن نعيد استلهام دروس العبور الأولي كي نحمي ونحصن العبور الثاني, أن نتخذ أولا قرار بناء الدولة القوية التي تحقق الحرية والعزة والكرامة, وأن يكون الشعب هو صاحب هذا القرار وأن يكون الجيش طرفا أساسيا في معركة البناء علي نحو ما كان في معركة العبور العسكري, وأن ندون كل هذه المعاني في دستورنا الجديد علي نحو مغاير لمسودة الدستور التي أعدتها لجنة العشرة وهي المذكرة التي جاءت صادمة لطموحات المصريين في ثورتهم خاصة في باب الحقوق والحريات والفصل الخاص بالأجهزة الرقابية. مطلوب التأكيد علي حقوق الشعب, كل الشعب دون تمييز, كل الحقوق الاجتماعية والاقتصادية وخاصة الحق في العلاج المجاني المحترم والتعليم المجاني المحترم, وحق الشعب في العمل والمسكن اللائق, إضافة إلي عدالة اجتماعية حقيقية تحقق التوازن العادل في الدخل بين حد أدني كريم وحد أعلي مقبول. ومطلوب التأكيد علي حق الشعب في أن يعزل الحاكم إذا رأي ضرورة لذلك دون وصاية من البرلمان ولكن عبر آليات مأمونة دون الرضوخ إلي ما يمكن اعتباره ب عبودية ديمقراطية الصندوق, لأنها في طبيعتها ديمقراطية ناقصة مهما كانت ضوابطها نظرا لكونها ديمقراطية من يملكون أكثر, تجربة الثورتين تعطي الشعب هذا الحق, وليس من حق أحد أن يرحمه منه. ومطلوب تأسيس أجهزة رقابية قوية وحقيقية تراقب المال العام ولا تخضع لإرادة حاكم أو تحكم برلمان, ولذلك لابد من النهوض بالجهاز المركزي للمحاسبات ليصبح جهازا أعلي للرقابة والمحاسبة له حق الضبطية القضائية ومتحرر من هيمنة وسيطرة الرئاسة أو البرلمان. ومطلوب تحديد هوية النظام الاقتصادي المصري حيث لم يعد النظام الرأسمالي نظاما يمتلك الكفاءة والاقتدار لبناء دول قوية لا تخضع لإرادة أجنبية بالتأكيد علي الاقتصاد المختلط الاشتراكي والرأسمالي شرط أن يكون القطاع العام هو قائد التنمية, ومطلوب حسم علاقة الجيش بالسياسة والحفاظ علي استقلالية الجيش عن أي هيمنة حزبية مع تأكيد حق الشعب في الرقابة علي الجيش, وأن يكون للبرلمان حق الرقابة والمحاسبة وشريكا في قرار الحرب. ومطلوب تأسيس مؤسسة وطنية جديدة مهمتها صياغة الاستراتيجيات العليا للدولة وصنع الرؤي والسياسات في كافة المجالات من خلال مجلس أمن قومي يتكون من ثلاثة مجالس عليا هي المجلس الأعلي للدفاع والأمن والمجلس الأعلي للسياسة الخارجية والمجلس الأعلي للاقتصاد والتنمية المجتمعية المستدامة( الاقتصادية والتربوية والعلمية والتكنولوجية والثقافية), هذه المؤسسة مازالت غائبة الآن عن مؤسسات الدولة التي تعمل دون عقل قادر علي صنع الرؤي والسياسات والاستراتيجيات في كافة المجالات. أخذ كل هذه الأمور في الاعتبار أضحي ضرورة لتأمين الدستور من أي انزلاق في متاهات التغييب عن إدراك القضايا الاستراتيجية العليا التي هي بدورها مرتكزات بناء الدولة القوية المقتدرة التي تحقق ما نأمله من حرية وعزة وكرامة دون خوف من ارتداد لدولة الاستبداد والفساد ودولة التبعية والفشل والعجز الذي يريده لنا أعداؤنا, والوعي بأهمية تمكين هذه الدولة من الدفاع عن نفسها وإنجازاتها ضد أي تهديد من الخارج أو من الداخل كي تستطيع العبور إلي المستقبل الذي نحلم به في عبورنا الثاني واعية بدروس عبورنا الأول. لمزيد من مقالات د. محمد السعيد إدريس