أعلم يقينا أنه ليس من اليسير أن أجري حوارا مع د. محمود حافظ, وهو عالم موسوعي فذ, وأستطيع أن أحاصر حياته التي امتدت إلي99 عاما و340 يوما, حيث ودع الحياة. قابلته ثلاث مرات, الأولي جاء بدعوة مني ليلقي محاضرة أمام نوادي علوم الأهرام, والثانية في شرفة منزله المطل علي قصر وحدائق البارون إمبان مؤسس ضاحية مصر الجديدة, والثالثة في نادي هليوبوليس, حيث كان اللقاء الجامع الشامل لرحلة حياته من فارسكور, وحتي مصر الجديدة, عبورا بعابدين ثم الإسكندرية ودمياط.. هذا من حيث الإقامة.. والإعاشة. أما رحلة المعلم فهي غنية بالمعلومات والأقدار التي لعبت أروع أدوارها من صبي في المعهد الأزهري بفارسكور ودمياط, إلي طالب في مدرسة السعيدية بالقاهرة, بل وإمام وخطيب مسجد المدرسة في جاردن سيتي, إلي طالب في كلية الطب, وهجرها إلي العلوم, ثم إلي جامعة كامبريدج العريقة, وتمر الأيام ليصبح شيخ علماء مصر, وسيد المجمعين, مجمع اللغة العربية والمجمع العلمي المصري, وعضوا في19 جمعية علمية مصرية, وعضوا في19 جمعية علمية دولية أخري. وكما يقول لي وهو يطل علي شمس الغروب وهي تسحب خيوطها الذهبية من فوق قصر البارون التحفة الجمالية.. لقد كان لي شرف أن أكون تلميذ د. محمد مصطفي مشرفة عميد كلية العلوم جامعة القاهرة ولها قصة جميلة, صحيح أنه بعد أن حصل علي مجموع عال في التوجيهية(91%) انخرط في كلية الطب, ولكن.. وقعت مقابلة مع مجد الدين حفني ناصف مدير مكتب د. أحمد لطفي السيد باشا مدير جامعة القاهرة, أقنع د. محمود حافظ بأن يهجر الطب إلي العلوم, وحدث التحول الكبير في حياته. ومن الطرائف التي يحكيها د. محمود عندما التقي د. أحمد رياض ترك أستاذ مادة الكيمياء, وفي أثناء تعرفه علي الطلبة في الدفعة جاء الدور علي الطالب محمود حافظ إبراهيم وسأله هل أنت ابن الشاعر الكبير حافظ إبراهيم؟.. فأجاب الطلبة كلهم في صوت واحد نعم.. هو ابن حافظ إبراهيم!. ويشرح د. حافظ المسيرة التي لعبت الأقدار أروع أدوارها عندما أصرت والدته علي أن يخرج من كتاب القرية إلي المدينة, ليتلقي العلم في مدارسها.. وعندما خرج من إعدادي طب إلي كلية العلوم, وعندما انفرجت به المسيرة في كلية العلوم من الرياضيات والكيمياء إلي قسم الحيوان ليتلقفه د. حسن أفلاطون باشا ويسجل معه دراساته العليا في علم الحشرات. ويظهر نبوغ د. محمود حافظ عندما وقع الاختيار عليه ليلقي كلمة في الاحتفال بتعيين الدكتور مصطفي مشرفة عميدا لكلية العلوم وحضر الحفل د. أحمد لطفي السيد رئيس الجامعة, ود. طه حسين عميد كلية الآداب, وتضمنت بعض أبيات الشعر, وهنا عقب الدكتور طه حسين عميد الأدب العربي قائلا: لم أكن أدري أن بكلية العلوم علماء أدباء يملكون ناصية اللغة العربية. ومن عجب.. أن يكون الدكتور طه حسين الذي أصبح بعد ذلك وزيرا للتربية والتعليم في سنة1952 سيد المجمعين, فقد كان رئيسا لمجمع اللغة العربية, ورئيسا للمجمع العلمي المصري, ويمر نصف قرن, ويأتي د. محمود حافظ ليتبوأ مكانة د. طه حسين, ويصبح سيد المجمعين. تم تكريمه بكل جوائز الدولة, فهو أقدم الحاصلين علي جائزة الدولة التقديرية في العلوم, ونال أوسمة الدولة مثل الاستحقاق, والعلوم, من الطبقة الأولي. ونال كل الرئاسة الشرفية والفخرية في كل مؤتمرات الدنيا, ونال الدروع التي تمنح لرواد العلم في هذا التخصص من الجمعيات الدولية. ويحكي لي د. محمود كيف دخل مجمع الخالدين في21 مارس سنة1977, وانتخب في المقعد الذي كان يشغله د. مراد كامل عميد كلية الألسن, وقد رحب به العلماء وأشادوا بعضويته قائلين: شخصية وضاءة حملت مشعل العلم والتعليم بأمانة ورصعته باللآلئ من الدين واللغة والعلم. تري ماذا سوف يسجل تلاميذه من عطاء وعلم وخلق وإنسانية بعد رحيله وإن ظلت أعماله تضيء طريق تلاميذه؟.