حسنا فعلت حكومة الدكتور حازم الببلاوي بإنشاء وزارة للعدالة الانتقالية, وحسنا فعل وزيرها الجديد المستشار محمد أمين المهدي بلقائه فور توليه كل الخبراء والمهتمين بملف العدالة الانتقالية لبحث أهم القضايا المطروحة خلال المرحلة الراهنة والتساؤل الآن: ما هي طبيعة التشريعات المطلوبة لتحقيق العدالة الانتقالية وتنظيم المحاكمات, التي سيتم إجراؤها لمن أجرموا في حق المجتمع, وكيف نحقق في أسباب الظلم الذي وقع من النظامين السابق والأسبق؟ في البداية يؤكد الدكتور يسري الكومي أستاذ علم الاجتماع السياسي أنه عقب قيامثورة25 يناير2011 طرحت فكرة تطبيق العدالة الانتقالية لتحقق الثورة أهدافها بإجراءات غير عادية لتحقيق مبدأين أساسيين, هما المحاسبة والتطهير, حيث شكلا ما سمي دوليا بالعدالة الانتقالية, والتي تضمن برنامجا متكاملا, يبدأ بالمحاكمات والدعاوي الجنائية مرورا بلجان الحقيقة, وبرامج التعويض, وإصلاح الضرر, وإصلاح الأجهزة الأمنية, وإعادة هيكلتها, وأخيرا جهود تخليد شهداء الثورة ورموز المعارضة الذين دفعوا حياتهم ثمنا للحرية, وقد كان أحد أسباب تعثر الثورة المصرية هو الإصرار علي محاكمة رموز النظام الأسبق المتهمين بقتل الثوار وبجرائم مالية وعزلهم عن الحياة السياسية بينما كان هذا المطلب يتعارض مع ارتباطات المجلس العسكري الحاكم مع النظام والذي يعتبر في الواقع جزءا لا يتجزأ منه, وتحت الضغط الشعبي اضطر إلي محاكمة الرئيس الأسبق وبعض معاونيه محاكمة استمرت عاما كاملا وفي النهاية تم الحكم بأحكام باهتة لا تعكس حقيقة ولا تجلب انصافا, ولم تتمكن مصر من استرداد الأموال المهربة للخارج لعدم صدور أحكام قضائية ضد الرئيس السابق وأفراد أسرته بشأنها. ولذا والكلام ل د. يسري إذا أردنا تطبيق العدالة الانتقالية بحيث ننتقل من حالة ديكتاتورية كاملة إلي حالة ديمقراطية كاملة, فإن ذلك يتطلب وقتا من الزمن وتضافر جهود مجتمعية تشترك فيها منظمات المجتمع المدني والنشطاء والخبراء, لأن الغرض النهائي منها هو الوصول إلي ما يطلق عليه تجفيف منابع الديكتاتورية. وينبه د. يسري إلي أن العدالة الانتقالية ليس مقصودا بها إجراء محاكمات لرموز نظام سابق وفقط, بل إن المحاكمات هذه هي جزء بسيط من منظومة متكاملة تؤدي إلي نظام يمنع من الجذور الاستغلال السيئ للسلطة أو التلاعب بالعقول كما يحدث في مناهج التعليم أو الإعلام الموجه الذي يربي العقول علي التلقي فقط, ولذا فلابد عند تطبيقها من إعادة النظر في كل المناحي بدءا من القوانين ومرورا بالتعليم والإعلام والخدمات وتوزيع الأراضي وبرامج التثقيف السياسي للشباب والتوزيع العادل للدخول والثروات, وإعادة النظر في طريقة تعامل السجون والمعتقلين وضرورة التخلص نهائيا من عهود التخلف. ويضيف أن إنشاء وزارة جديدة للعدالة الانتقالية جاء ليقضي علي أمل تنفيذ هذه العدالة, وذلك لأن الحكومة هي من بنية الدولة والوزارة الجديدة هي أحد اجهزتها, وبالتالي إذا كانت هذه هي المسئولة عن هذا الملف, فلن تكون شفافة, لأن الوزارة مهمتها أن تراقب الحكومة وغيرها لا أن تكون منضوية تحت إدارتها. لعل عبدالله خليل المحامي بالنقض واستشاري القانون الدولي لحقوق الإنسان يكون وضع رؤية لتشكيل هذه المحكمة, حيث قال إذا أردنا تطبيق العدالة الانتقالية خاصة في المحاكمات فينبغي أولا أن تشكل المحكمة وفقا لمبدأ التقاضي علي درجتين, وتتألف من دائرتين أو أكثر: دائرة ابتدائية ودائرة واحدة للنقض, ومحام عام مستقل, بالإضافة إلي قلم المحكمة الذي يقدم خدماته لكل من الدوائر ومكتب المحامي العام, وشرطة قضائية خاصة تقوم علي تأمين المحكمة وتنفيذ أوامرها بالضبط والإحضار وتمتثل في أفعالها لرئيس المحكمة وتتبع المحكمة ماليا وإداريا, ويكون المحامي العام مسئولا عن التحقيق وملاحقة الأشخاص المسئولين عن الانتهاكات والجرائم المعاقب عليها في قانون المحكمة, وينفذ لائحة اتهام تحتوي علي بيان بالوقائع والجرائم المنسوبة للمتهم ويحيلها إلي قاضي التحقيق الذي يتم اختياره من قضاة المحكمة الابتدائية, فإذا رأي قاضي التحقيق وجها في إقامة الدعوي يقبل لائحة الاتهام ويحيلها للدائرة المختصة بالمحكمة وإن لم يقتنع بكفاية الأدلة يرفض لائحة الاتهام ويردها للمحامي العام للمحكمة. ويضيف أنه لابد أيضا أن تشكل لجنة للحقيقة يشكلها المحامي العام للمحكمة ويحق له تجديد عملها, وتقوم علي تقييم ورصد الانتهاكات التي تقع تحت ولاية المحكمة, وتقدم نتائج وتقارير اللجنة لرئيس المحكمة بالإضافة إلي عرضها في جلسة استماع علنية, كما يحدد قانون المحكمة السبل القانونية المتبعة لحماية المدعيين والضحايا والشهود بالقضية. ويكون رئيس قلم المحكمة مسئولا مسئولية تامة عن عملية التأمين بمساعدة الشرطة القضائية. ويكون مسئولا عن صندوق تعويض الضحايا وجبر الضرر وصرف مستحقاتهم ويقتطع لتلك المحكمة ميزانية خاصة من ميزانية الدولة منفصلة عن ميزانية السلطة القضائية, علي أن يقدم رئيس المحكمة تقريرا نصف سنوي لوزارة المالية والجهاز المركزي للمحاسبات عن عمل المحكمة وأوجه صرف أموالها. ويحدد القانون قائمة بالسجون التي يحال إليها المتهمون والمحكوم عليهم علي أن تخضع تلك السجون لمراقبة المحكمة المتخصصة. ويشير إلي أنه يجب أن ينص القانون علي ألا تحول الحصانات أو القواعد الإجرائية الخاصة التي قد ترتبط بالصفة الرسمية للشخص في إطار القانون الوطني دون ممارسة المحكمة اختصاصها علي هذا الشخص, والنص صراحة علي أنه في حال التعارض بين القانون المصري والاتفاقيات الدولية علي تعريف إحدي الجرائم خاصة فيما يتعلق بالجرائم المنظمة عبر الوطنية وجرائم الفساد وغسيل الأموال والإرهاب والتعذيب والجرائم ضد الإنسانية تكون الأولوية للاتفاقيات الدولية عملا وهي كلها جرائم ولايجوز الدفع بسقوطها بالتقادم. الأمر مختلف وبنظرة واقعية يستبعد محمد زارع رئيس المنظمة العربية للإصلاح الجنائي تطبيق العدالة الانتقالية بشكلها التقليدي المطبق في العالم, حيث الأمر مختلف في مصر, ولابد من وجود إبداع وطريقة مختلفة في التعامل مع الموقف هنا في مصر, حيث تقوم العدالة الانتقالية علي فكرة أنها عدالة ناقصة, وذلك من خلال التضحية بجزء من العدالة في الماضي في مقابل التطلع للمستقبل بشكل مشترك بين كل الفصائل السياسية في المجتمع, وهي تقوم علي عدة عناصر, منها, الاعتذار عن الجرائم التي حدثت من قبل الجناة وتعويض المجني عليهم في مقابل المصالحة الوطنية, وهو عنصر صعب تطبيقه في مصر, فالاعتذار غير كاف لعدم وجود توافق مجتمعي, لأن الناس وقتها ستشعر بعدم تحمل الجناة, ولذا فإن الوضع في مصر يحتاج تعاملا خاصا, لأن أقطاب النظام الأسبق مبارك تمت محاكمتهم جنائيا, بينما نظام مرسي لم تتم محاسبتهم حتي الآن, وإن كان هناك بعض الدعاوي تجاههم الآن متل التحريض والقتل وما إلي ذلك. ويشير زارع إلي أن موضوع العدالة الانتقالية المتعارف عليه دوليا لن يحوزارضاء المواطنين هنا في مصر كالاعتذار والعفووذلك لاختلاف الثقافة, فأهم الجرائم التي تحدث والتي تجد خلافا كبيرا مثل القتل والإخفاء القسري, وكذلك المحاكمات العسكرية والتعذيب الممنهج وتزوير الانتخابات التي ارتكبها نظام مبارك لم نجد أحدا يتحدث عن عفو فيها, بينما الآن هناك حديث عن عفو مثل جرائم النفس والقتل والتعذيب والخيانة العظمي, والمال العام وهذه حدثت في عهد مرسي, فالكل اتفق علي العدالة الانتقالية واختلفوا علي تطبيقها والأزمة الحالية كما يراها زارع أننا حاكمنا نظام مبارك بالعدالة الكاملة الناجزة بينما لا يصح الآن العفو عن نظام مرسي فلابد من محاسبته مثل مبارك, ومن هنا وحتي يتم تطبيق العدالة الانتقالية ينبغي الاعتراف من الكل بها, الموضوع سيظل نظريا وليس علينا إلا الاجتهاد لتطبيق شكل جديد من هذه العدالة.