تنشغل الساحة السياسية هذه الأيام بمناقشة قضية التغيير ويطرح حديث التغيير بالضرورة قضية الاستقرار وربما ايضا قضية المشروعية فإذا كان التغيير مطلوبا, فإن السؤال ما يلبث أن يثار الي أي حد يتفق ذلك أو يتعارض مع الاستقرار الذي هو الضمان الحقيقي لوجود المجتمعات. كذلك فإن الحديث عن الاستقرار و التغيير معا لابد وأن يتحققا في إطار من المشروعية. فأما عن الاستقرار فهو نقطة البداية. فلا يستطيع الإنسان وكذا المجتمع العيش في إطار من القلق الدائم والتوتر المستمر وعدم اليقين عما يخبئه له الزمان فالإنسان وبالتالي المجتمع يحتاج الي درجة من وضوح الرؤية بحيث يستطلع المستقبل بدرجة معقولة من التوقع دون صدمات أو مفاجآت مستمرة. فهو يكون فكرة عن المناخ الذي يعيش فيه وطبيعة البيئة المحيطة ويعرف بقدر من التقريب أطوارها وتقلباتها ومخاطرها, وهو يدرك أيضا قواعد السلوك السائدة حوله ويتوقع بدرجة معقولة ردود الأفعال المتوقعة من جيرانه في الوسط المحيط. وبعبارة موجزة هناك حاجة لدرجة معقولة من الاستقرار في الوسط المحيط بالإنسان وبالتالي للمجتمع لكي يستطيع كل منهما أن يتخذ قراراته واختياراته بدرجة كافية من الرشادة. أما إذا كان كل شئ قابلا للتغيير والتقلب وفي كل اتجاه دون ضابط فإن الأمور تختلط أمام الإنسان, ويفقد القدرة علي القرار والاختيار, فدون استقرار لاقيام للحياة الاجتماعية أو للسلوك البشري الرشيد. وإذا كان نوع من الاستقرار شرطا لوجود الحياة الاجتماعية, فليس معني ذلك افتراض الجمود أو الثبات المطلق في الأشياء, فالظروف المحيطة تتغير وإن في حدود متوقعة ومقبولة ومن الطبيعي أن يغير الإنسان سلوكه ومؤسساته لمواجهة التغيرات المحيطة. كذلك وبصرف النظر عن تغير الظروف المحيطة فإن الإنسان يمل الرتابة والروتين ويتطلع الي الجديد والمبتكر, فقد حباه الله بغريزة الفضول وحب الاستطلاع, ولذلك فهو مجبول من دون الكائنات علي البحث عن المجهول وسبر أسرار الطبيعة المحيطة. ومن هنا قدرة المجتمعات البشرية وحدها علي التقدم. فمملكة الحيوان, وقد عرفت تغيرات بيولوجية في تاريخها الطويل, فإنها لم تتقدم ثقافيا أو حضاريا. الإنسان وحده هو القادر علي التقدم والتطور الحضاري والثقافي فالإنسان المعاصر لا يكاد يختلف بيولوجيا عن إنسان الغابة البدائي سواء من حيث القدرات العقلية أو من حيث الخصائص الجسمانية, ولكنه الآن مختلف تماما في حياته الاجتماعية والنفسية نتيجة قدراته علي تطوير البيئة المحيطة وإخضاعها لاحتياجاته. وهكذا عرف الإنسان وحده ظاهرة التقدم فالتقدم لا يعدو أن يكون في جوهره تغييرا الي الأفضل أو بحثا هن الأكفأ أو حتي عن الجديد. ولكن التغيير لا يعني انقلابا علي الأوضاع أو قلبا للموازين في سلسلة من المفاجآت أو الصدمات غير المتوقعة. وهكذا نجد أن هناك توازنا مطلوبا بين استقرار معقول, وبين تغيير هادئ ومستمر ومرغوب, وذلك بلا إفراط أو تفريط فالاستقرار المطلق ليس الا جمودا ومواتا, كما أن التغيير الجامح وغير المحسوب هو فوضي واضطراب, ومن هذا المنطلق أصدرت منذ سنوات كتابا بعنوان التغيير من أجل الاستقرار, مؤكدا فيه أن الجماعة كما الفرد شأنهم راكب الدراجة يفقد توازنه إذا توقفت الدراجة عن السير, وقد يسقط من فوقها, وهكذا تحتاج المجتمعات المستقرة الي قدر مناسب منسالتغيير المستمر حتي تعيش وتتقدم دون جمود أو جموح. علي أن الحديث عن الاستقرار و التغيير لا يكتمل دون الإشارة الي المشروعية فلا استقرار دون مشروعية, كما أن التغيير لابد وأن يتحقق في إطار هذه المشروعية. أشرنا الي أن الاستقرار يتطلب وضوحا في أوضاع الأفراد وحقوقهم, وبالتالي انضباطا في العلاقات الاجتماعية وخضوعها لقواعد معروفة ومستقرة ومحل احترام, وبغير ذلك تسود الفوضي وتختلط الأمور, وبعبارة أخري فإن الاستقرار يتطلب وجود قانون ينظم العلاقات الاجتماعية ويضبطها, وأن يكون هذا القانون محل احترام,فالاستقرار, وهو نقيض الفوضي, يتطلب وجود القانون واحترامه. أما الفوضي فهي الخروج علي القانون أو انعدام القانون كليا, وهكذا يحتاج الاستقرار الي المشروعية. ولكن عن أي قانون نتحدث؟ وهل لكل قانون مشروعية؟ القانون الوضعي هو, في النهاية, أمر من السلطات ينبغي علي الأفراد الانصياع له وإلا تعرضوا الي الجزاء. فالقانون الوضعي يتميز عن غيره من قواعد السلوك الاجتماعي مثل قواعد الأخلاق أو تعاليم الأديان بأنه يتمتع بمساندة السلطة التنفيذية( الحاكم) باعتبارها المسئولة عن ضمان الانصياع لأحكام هذا القانون وذلك بتوقيع الجزاء علي المخالفين. أما قواعد الأخلاق وكذا الأديان فرغم أنها تحدد أيضا قواعد السلوك الواجب, فإنها لا تعرف جزاء ماديا دنيويا علي مخالفتها اكتفاء بالجزاء الأخلاقي من احتقار المجتمع أو الشعور بالخزي والعار أو غير ذلك من أشكال الضغط الاجتماعي, أو من عقوبة إلهية في الآخرة عند مخالفة التعاليم الدينية. وإذا كان هذا هو مفهوم القانون الوضعي, فما هو المقصود بالمشروعية إذن؟ عندما نتحدث عن المشروعية فإننا لا نتوقف علي الجوانب الشكلية للقوانين, بإصدارها من السلطات المختصة وفقا للإجراءات المقررة في كل دولة, وإنما نبحث عن شئ آخر يتعلق بمدي تقبل المجتمع لهذه القواعد وبسلطة من يصدرها, وهذه هي المشروعية فالأب يملك سلطة علي الابن, ويستطيع أن يوبخه أو حتي يضربه ويتقبل الابن هذا العقاب, لأن سلطة الأب في نظره مشروعة وليس الأمر كذلك من البلطجي الذي قد يتعرض للابن بالضرب أو بالإهانة, وقد يتحملها الابن عجزا وليس قبولا ومن هنا فسلطة البلطجي غير مشروعة فالمشروعية هي ظاهرة اجتماعية نفسية تتحقق عندما يري المحكومون أن الحاكم له الحق أن يأمر وأن عليهم الطاعة, وأنه فيما يأمر يتصرف في حدود واجباته. ولذلك فإننا عندما نتحدث عن جانب المشروعية فإننا لا نقتصر علي الإشارة الي مجرد وجود قوانين بل نشير ايضا الي ضرورة تقبل المجتمع بصفة عامة لهذه القوانين. وقد تطورت فكرة المشروعية خلال العصور, ففي العصور القديمة كان يكفي أن يصدر الأمر من الملك أو السلطة الشرعية حتي تتمتع أوامره بالمشروعية أيا كان موضوعا, ولكن من خلال التطورات السياسية اللاحقة وخاصة مع الثورات العالمية لتحرير الانسان أصبحت فكرة مشروعية القانون مرتبطة بمدي حمايته لحقوق الأفراد وحرياتهم الأساسية( الأمر الذي تأكد في إعلانات حقوق الإنسان) فالغرض النهائي من القانون هو حماية هذه الحقوق والحريات, وهو بالتالي مناط مشروعيتها. ويرتبط بهذا الموضوع التفرقة بين القوانين العادية والقوانين الاستثنائية, فإذا كان من الطبيعي أن توفر القوانين العادية الحماية الكاملة للحريات والحقوق الأساسية للأفراد, فإنه من الواجب أيضا قبول بعض القيود علي هذه الحريات والحقوق في لظروف الاستثنائية والتي قد تهدد وجود أو سلامة البلاد, كما في حالات الحروب أو الاضطرابات أو مخاطر المجاعة والأوبئة أو الكوارث الطبيعية, أو غير ذلك مما يبرر اتخاذ تدابير وقتية لمواجهة هذه الظروف الاستثنائية, ولو بالخروج مؤقتا علي ضمانات هذه الحقوق والحريات. وتظل الكلمة الرئيسية في هذه العبارة هي موقتا, وذلك بمعني ألا تتحول هذه القيود الي قيود دائمة. فمن الطبيعي أن تعود الأوضاع الي طبيعتها بعد زوال هذه الظروف الاستثنائية. فالظروف الاستثنائية بطبيعتها مؤقتة ولا يجوز تأبيدها وتعرف مصر وضعا شاذا بالنسبة لاستمرار هذه القوانين الاستثنائية فقد بدأ فرض الأحكام العرفية في مصر في عام1939 عند بداية الحرب العالمية الثانية, واستمرت بأشكال متعددة باستثناء فترات قصيرة حتي وقتنا هذا, وفي خلال السبعين سنة الماضية لم تزد الفترة التي ألغيب فيها الأحكام العرفية أو حالة الطوارئ عن أربع أو خمس سنوات, وهي حالة لا مثيل لها بين الدول وتحتاج الي معالجة لكي تصبح مصر دولة طبيعية, وفق تعبير الدكتور عبد المنعم سعيد في مقال حديث له. ولكل ما تقدم فإننا نرحب بالحراك السياسي الجديد ونري أنه يمثل تطورا ايجابيا في مطالبه, فالمطالبة بالتغيير ليست فقط أمرا مشروعا بل هي إثراء للحياة السياسية بمزيد من الحيوية. وهذه المطالبة تدعم الاستقرار ولا تتعارض معه. وأخيرا فلعله قد آن الأوان لإلغاء حالة الطوارئ بعد أن طال استمرارها وفقدت مبررها. والله أعلم. المزيد من مقالات د.حازم الببلاوي