ذهبت إلي الإسكندرية في الاسبوع الماضي لكي ألقي محاضرة عن مستقبل مصر بدعوة كريمة من صالون الأوبرا الثقافي الذي صار بفضل جهد الزميل أسامة هيكل واحدا من علامات الحياة الثقافية. حيث يناقش الكثير من القضايا المحورية في الحياة المصرية. وبالتأكيد لم يكن الموضوع سهلا, وما كانت المهابة والفخامة التي تظهر عليها الأوبرا في مسرح سيد درويش تزيل رهبة الموضوع بل تضيف عليه تلالا من الإضافات. فقد كان طبيعيا أن يثار قبل اللقاء بالجمهور كيف كان ممكنا عام1918 بناء مثل هذا المبني العريق الذي تكاد جنباته وزخارفه الغنية تنطق بنغمات وألحان وترانيم جاءت من الشرق والغرب تحكي قصة التطور المصري الفريد خلال القرنين الماضيين. وبشكل لم أكن أتخيله كان المكان مناسبا تماما لما كنت سوف ألقيه علي الحاضرين من أهل الإسكندرية الكرام, فقد كانت الساحة المصرية ممتلئة حتي الحافة بصورتين متناقضتين للمستقبل المصري: صورة تري في الحالة المصرية من الجمود ما يجعلها غير قابلة للتطور, ومن الفقر والتخلف ما لا يبدو معه امكانية للاصلاح وفي الصورة تدور العلامات والإشارات والأرقام عن نسبة40% من الفقراء حتي لو كذبتها كل المصادر المدعي الرجوع إليها وهو ما أشرنا له من قبل في مقالات أخري. والصورة الأخري عكس الأولي تماما اذ تري مصر جامدة ولا قاعدة, وإنما تراها تمور وتفور بحركات احتجاج منذرة سوف تنفجر قبل بزوغ فجر اليوم التالي, فإن لم يكن ففي فجر اليوم الذي يليه, وهكذا سوف يأتي التغيير مع الأيام مهما طالت وبعدت. وبالنسبة بدت الصورتان لا تلهمان قناعة, ولا تستندان إلي أدلة وبراهين يمكن الركون إليها, وعلي العكس تماما بدت لي مصر تسير في طريق التغيير كما هي الحال في دول كثيرة تدريجيا وتراكميا وكميا ونوعيا عبر ساحات كثيرة من التكنولوجيا وقوي الإنتاج والقوانين والإجراءات والمراسيم. وهذه كلها يمكن رصدها بسهولة منذ قيام الدولة المصرية الحديثة في عام1805 مع تولي محمد علي الكبير السلطة في مصر. ما حدث بعد ذلك ذكرته في مقالات عدة من قبل, ولكن ما يهمنا في اللحظة الراهنة أنها تأتي هي الأخري ضمن عملية تطورية ذات أبعاد تكنولوجية وإنتاجية واجتماعية تراكمت عبر العقود القليلة الماضية, وبالتحديد منذ أن تولي الرئيس مبارك السلطة, بعد الرئيس السادات الذي كانت نبوءته الثاقبة هي أنه سوف يكون آخر الفراعنة. وهكذا, وكما هي الحال في كل الدول والأمم التي أخذت طريقا تدريجيا تراكميا في التغيير والتقدم, فإن العقود الثلاثة الماضية تقريبا شهدت مرحلة ما بعد الدولة الفرعونية من خلال تغييرات شتي ربما كان أخطرها ما جري من تعديلات في المادة76 من الدستور وأدت إلي انتخاب رئيس الجمهورية أي رأس الدولة بالانتخاب المباشر ومن بين قوي مدنية تنافسية. وكان صديقي الدكتور طه عبد العليم المدير العام للأهرام هو الذي لفت نظري إلي أن جذور نهاية الحقبة الفرعونية ربما وضع أساسها الموضوعي بناء السد العالي الذي أعطي المصريين القدرة الكاملة للتحكم في نهر النيل, ومن ثم انتهت ضرورات السلطة الفرعونية كما عرفناها لأزمنة طويلة, وربما احتاج الأمر عقدا آخر بعد بناء السد لكي تظهر النتائج السياسية ويعتقد السادات أنه سوف يكون آخر الفراعنة. والآن ومع اقتراب لحظة مفصلية من التطور المصري مع الانتخابات التشريعية والرئاسية الجديدة فإن الساحة السياسية المصرية تبدو كما لو كانت خالية إلا من هؤلاء الذين لم يجدوا سوي المواد76 و77 و88 من الدستور علي أهميتها لكي يجعلوها الحاكمة في التغيير والتطور المصري كله. وعلي العكس تماما فإن الحزب الوطني الديمقراطي الذي لم يشغل الساحة بكثير من الضجيج كان يقوم بالفعل بعملية تغيير واسعة في مصر من خلال سلسلة من القوانين التي تغير من العلاقات الاقتصادية والاجتماعية المصرية, بالإضافة إلي تغييرات تجري علي الأرض من خلال إجراءات للامركزية لم تعرفها مصر منذ العهود الفرعونية الأولي, مضافا إليها بنية أساسية تضع لبنة إعادة تشكيل الجغرافيا والديمغرافيا المصرية من جديد حينما تمتد محافظات الصعيد إلي ساحل البحر, وتمتد خطوط وشرايين الغاز إلي كل القطر. وببساطة فإن الحزب الوطني الديمقراطي يكاد يكون القوة السياسية الوحيدة في مصر التي لديها خطة واضحة للتغيير الاقتصادي والاجتماعي المصري كانت كل جذورها موجودة فيما عرف ببرنامج الرئيس مبارك في الانتخابات الرئاسية الماضية. هذا البرنامج تضمن ستة أقسام رئيسية: الأول ركز علي تبني تعديلات دستورية أساسية يمكن من خلالها إتاحة مزيد من التوازن بين السلطات الثلاث, وتوسيع نطاق المشاركة في اتخاذ القرار بين رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء, وتفعيل دور البرلمان في الحياة السياسية, وضمان تبني النظام الانتخابي الذي يكفل زيادة فرص تمثيل الأحزاب, ودعم تمثيل المرأة بالبرلمان, وتفعيل دور المجتمع المدني, وضمان وضع قانون جديد للإرهاب كبديل عن مكافحته بالعمل بقانون الطوارئ بما يعزز حقوق المواطن. والثاني هدف إلي توفير4.5 مليون فرصة عمل في الأعوام الستة في مختلف القطاعات, إلي جانب تبني سياسات لتحفيز البنوك علي توفير60 ألف قرض سنويا للمشروعات الصغيرة, وتمويل2000 مشروع صغير ومتوسط جديد, وتحفيز شراكات مع القطاع الخاص والقطاع المصرفي, من أجل بناء ألف مصنع كبير جديد, لتوفير250 ألف فرصة عمل للشباب سنويا, فضلا عن استغلال الأراضي الصحراوية واستصلاحها, لتحويلها إلي مجتمعات زراعية جديدة, وتحسين فرص الفلاح المصري في زيادة دخله, والعمل علي دعم قطاع السياحة من خلال زيادة عدد الغرف من150 ألفا إلي240 ألفا. والثالث عمل علي توفير آليات لمد خدمة التأمين الصحي إلي100% من المواطنين, بحلول عام2010 أيا كانت قدرتهم المالية, وإنشاء3500 مدرسة جديدة وتدريب400 ألف معلم, وتوفير هيكل أجور متميز لأكثر من400 ألف مدرس, وتطوير250 مدرسة فنية خلال6 سنوات, فضلا عن إنشاء نصف مليون وحدة سكنية للشباب, وإعادة تخطيط4000 قرية من خلال توفير1.5 مليون جنيه لكل قرية, بواقع250 ألف جنيه سنويا للقرية. والرابع تضمن زيادة الأجر الأساسي ل3.5 مليون موظف حكومي في الدرجات الوظيفية الأقل بنسبة100%, وزيادة رواتب العاملين في الدرجات الوظيفية الأعلي بنسبة75% في الأعوام الستة, وتشجيع إنشاء1000 صندوق خاص للمعاشات تحت مظلة رقابة الدولة. الخامس اهتم بقضايا السياسة الخارجية, حيث يشدد علي ضرورة أن تظل مصر قوية وآمنة ويضع خمسة محاور أساسية لسياسة مصر الخارجية هي مساندة بناء الدولة الفلسطينية, والتكامل مع السودان, والتضامن مع العراق حفاظا علي استقراره ووحدة أراضيه, وتفعيل النظام العربي, وتعميق التعاون الاقتصادي والتجاري مع القوي الكبري لخدمة الاقتصاد المصري. أما الأخير, فهدف إلي رعاية الطفولة المبكرة, وتشجيع ودعم إنشاء المدارس التعاونية, وإعطاء دفعة كبيرة لإنشاء الجامعات الخاصة, وتسهيل عملية تملك الوحدات السكنية من خلال تفعيل قانون التمويل العقاري, واستمرار إتاحة أراض حول المدن الرئيسية, وتشجيع البنوك علي منح تمويل للسلع المعمرة, ولأغراض الاحتياجات الاستهلاكية, والإسراع بتنفيذ مشروع تاكسي العاصمة. هذا البرنامج كان هو الأساس لعملية التغيير التي جرت خلال الفترة الماضية, ومن المدهش أنه لم يلق اهتماما جادا من قبل النخبة السياسية المعارضة في مصر سواء عندما طرح أو عندما جري التطبيق للخطوات والمشروعات المختلفة. وعندما طرحت في محاضرة الإسكندرية ضرورة الاهتمام الجاد بالدكتور محمد البرادعي وصحبه من الجماعات السياسية فقد كان ذلك واقعا في إطارين: الأول الإطار الدستوري الذي يري في الدستور ليس فقط قضية جوهرية لا يمكن أخذها بالخفة التي تجري بها, ومن ثم فإن الوقت لا ينبغي أن يكون مسألة ضاغطة في قضية تحتاج النظر إلي جميع جوانبها وأركانها لما فيها من مواد أخري في الدستور لا يمكن تجاهلها وتهتم بها قطاعات مهمة في المجتمع. والثاني هو أن التركيز علي القضايا الدستورية لا ينبغي أن يكون وسيلة للهروب من قضايا جوهرية تتعلق بسياسات وقوانين معروضة بالفعل علي المجالس التشريعية, ومشاريع يجري تطبيقها بالفعل. ومن المذهل في عملية سياسية يريدها البعض أن تكون متقدمة وديمقراطية ألا يعرف أحد ما هو موقف معارض نشط مثل الدكتور البرادعي من قانون الضرائب العقارية, أو قانون المعاشات, أو سياسات الدعم, أو مشروع الألف قرية الفقيرة, أو المشروع القومي لربط الصعيد بالبحر الأحمر, أو السلام مع إسرائيل أو التعامل مع السودان وغيرها من قضايا السياسة الخارجية. إن تغيير المجتمعات بطريقة سلمية لا يجري فقط من خلال تغيير مواد بعينها من الدستور, أو حتي الدستور كله, وإنما من خلال عمليات شاملة لها علاقة بالتغييرات والتطورات التكنولوجية في البلاد, ومن خلال تغيير العلاقات بين أطراف كثيرة في المجتمع والدولة. ومثل ذلك لا ينطبق فقط علي المعارضة وإنما ينطبق أيضا علي الحزب الوطني الديمقراطي الذي عليه أن يضع برنامجا لا يقتصر علي مجموعة السياسات التي سوف يطبقها, وإنما يمتد أيضا إلي الإطار الدستوري والقانوني الذي تقوم فيه. وبصراحة فإن الحزب يقوم فعلا بتغيير في البلاد لم يحدث أبدا في كل البلاد الأخري, ثم بعد ذلك بقي الإطار القانوني علي حاله لأن احتياجات المجتمع والدولة تتغير هي الأخري. وهنا فلا بد من الإشارة إلي وجود اجتهادات كثيرة داخل الحزب الوطني تحتاج إلي مناقشة واجتهاد, وموعدنا معها الأسبوع المقبل!. [email protected]