بعد تجاهل ونسيان لعقود عادت القارة السمراء لتتصدر اولويات أجندة السياسة الخارجية, ليس فقط لاعتبارات أمنية واستراتيجية وإنما أيضا لاعتبارات سياسية واقتصادية خاصة في ظل ولاية اوباما الثانية لما تحمله أفريقيا من أهمية كبيرة علي الساحة العالمية. خلال زيارتي لثلاثة من اهم مراكز الابحاث الأمريكية, والتي تشكل العقل المفكر والمخطط لتوجهات السياسة الخارجية الأمريكية, وهي مركز الدراسات الدولية والإستراتيجية ومعهد أمريكان انترابرايز بواشنطن ومجلس العلاقات الخارجية بنيويورك, أتيحت لي فرصة مناقشات عديدة مع الباحثين الأمريكيين حول موقع أفريقيا في السياسة الأمريكية, كان القاسم المشترك فيها هو أن أفريقيا بمكانتها الاستراتيجية وأهميتها الاقتصادية ومواردها الطبيعية الهائلة احتلت في العقد الأخير مرتبة متدنية في اجندة السياسة الأمريكية وتركزت بشكل اساسي علي الجانب الامني في إطار استراتيجية الولاياتالمتحدة العالمية لمحاربة الإرهاب وتنظيم القاعدة بعد أحداث 11 سبتمبر, وكان سؤالي للباحثين الأمريكيين لماذا تراجعت أفريقيا في أجندة السياسة الأمريكية؟ قدم الباحثون تفسيرات مختلفة, فنتيجة لتركيز واشنطن الأساسي علي العراق وأفغانستان وخوضها حربين في الدولتين, تحولت أفريقيا لقاعدة امريكية لمحاصرة ومحاربة التنظيمات المتطرفة في القارة والمرتبطة فكريا وايديولوجيا بتنظيم القاعدة مثل تنظيم القاعدة في شمال المغرب العربي, وحركة شباب المجاهدين في الصومال وحركة انصار الدين في مالي, وبعد تفجير السفارتين الامريكيتين في كينيا وتنزانيا عام 1998 أنشات الولاياتالمتحدة قاعدة' أفريكوم' العسكرية لمواجهة تلك التنظيمات, ومن ناحية أخري انشغلت السياسة الامريكية ببرنامجي كوريا الشمالية وإيران النوويين, ونتيجة لذلك تراجعت بشكل كبير أوجه التعاون السياسي والاقتصادي الأمريكي مع أفريقيا, واقتصرت فقط علي المبادرات الفردية في دعم جهود محاربة الأمراض الخطيرة خاصة الإيدز عبر المركز الذي أنشاه الرئيس السابق جورج دبليو بوش في تنزانيا. وبالتالي أدي الانسحاب الأمريكي الاقتصادي من أفريقيا إلي وجود فراغ كبير حاولت ملئه قوي عالمية جديدة مثل الصين وروسيا والبرازيل والهند واليابان والاتحاد الأوروبي في إطار الصراع العالمي الاقتصادي علي القارة الواعدة التي تمتلك موارد طبيعية كبيرة مثل النفط والذهب واليورانيوم والماس وغيرها, كما انها تشكل سوقا واسعة لتصدير المنتجات إليها, ولهذا وجدنا معظم القوي الدولية تؤسس لشراكات اقتصادية مع دول القارة الافريقية, وعقدت العديد من القمم مثل القمة الافريقية الصينية والقمة الأفريقية الأوربية والقمة الافريقية مع روسيا والهند, وهذا يعكس بجلاء الأهمية الاستراتيجية المتصاعدة لأفريقيا. وبرغم تصاعد الآمال داخل أفريقيا بتنشيط العلاقات مع الولاياتالمتحدة مع وصول الرئيس أوباما, ذي الأصول الأفريقية إلي السلطة, إلا أن أوباما أيضا انشغل في سياسته الخارجية بملف العراق حيث قام بسحب القوات الأمريكية من هناك عام 2011, وبملف أفغانستان حيث من المقرر سحب القوات الأمريكية العام المقبل, كذلك انشغل بالأوضاع الاقتصادية الداخلية ومعالجة الأزمات المالية والاقتصادية والتركيز علي قضايا التأمين والصحة والتشغيل, لكن في ظل الفترة الثانية لأوباما أخذت توجهات واضحة وضاغطة متزايدة سواء داخل مراكز الابحاث أو الإدارة الأمريكية للاهتمام بشكل فاعل بالقارة الأفريقية خاصة في الجانب الاقتصادي, في ظل التسابق الدولي علي القارة الأفريقية وألا يقتصر التعاون فقط علي الجانب الأمني بل يجب أن يشمل كل المجالات الاقتصادية والعلمية والثقافية, وكان من انعكاسات ذلك الاهتمام هو قيام الرئيس أوباما في شهر يونيو الماضي بزيارت ثلاث دول أفريقية هي تنزانيا وجنوب أفريقيا والسنغال لتكرس التوجه الجديد في السياسة الأمريكية بأهمية أفريقيا رغم النتائج الضعيفة التي أفضت عنها تلك الجولة. ويشير الخبراء في مراكز الأبحاث الأمريكية أنه لكي تنجح الاستراتيجية الأمريكية الجديدة صوب افريقيا فإنها تتطلب عددا من الامور أولها عدم التعامل مع افريقيا ككتلة صماء واحدة وباستراتيجية واحدة, فأفريقيا تتكون من 53 دولة وخمسة مناطق رئيسية ولكل منها ظروفه الخاصة ويحتاج لاستراتيجية مختلفة, وثانيها ينبغي ألا تكون السياسة الأمريكية تجاه أفريقيا قائمة فقط علي المنطق النفعي بالاستفادة من موارد القارة الاقتصادية, بل ينبغي ان يكون الولاياتالمتحدة دور فاعل وحيوي في مساعدة دول القارة علي تحقيق التنمية الاقتصادية بها وتقديم الدعم الفني والاستثمارات لها, كذلك محاربة الفقر والأمراض التي تفتك بعدد كبير من سكانها, وثالثها أهمية مساعدة الولاياتالمتحدة في إنهاء الحروب العرقية والصراعات الطائفية والدينية داخل العديد من دول القارة, والتي تمثل عقبة أمام انطلاق جهود التنمية كذلك دعم الديمقراطية والحكم الرشيد وان تتخلي عن سياسة دعم النظم الديكتاتورية تحت مظلتي الاستقرار ومحاربة الإرهاب وذلك في إطار التوازن بين المصالح الأمريكية والقيم التي تتبناها الولاياتالمتحدة في نشر الديمقراطية ودعم الحريات وحقوق الإنسان. لكن السؤال المستمر: هل ستفي فعلا الولاياتالمتحدة بتلك المتطلبات أم ستظل أفريقيا بالنسبة لها مصدرا للمواد الخام وساحة لمواجهة الإرهاب؟