تعيد بعض المجلات المصرية والعربية طبع كتب قديمة, مضي علي نشرها عشرات السنين, لا يستطيع أحد العثور عليها إلا في دور الكتب القومية, وتقدمها مع أعدادها هدية للقراء. من هذه الكتب التي دعت للنهضة والتقدم, وغدت من معالم التحديث, نطالع كتاب الفصول الأربعة للكاتب اللبناني عمر فاخوري(1895 1946) الذي صدرت طبعته الأولي في بيروت 1941 في ألفي نسخة, وأعيد طبعه أخيرا في كتاب الدوحة يتألف هذا الكتاب, كما يدل عنوانه, من أربعة فصول, تتناول الإبداع الفني من خلال البحث النقدي في أصول الإنشاء وأساليب التعريف به, وبدرسه والحكم عليه, والشعر وأوزانه, وعناصر الجمال الخفية فيه. يقوم هذا الإبداع في مفهوم عمر فاخوري, علي الاطلاع الواسع علي الآداب, وعلي الفهم الصحيح لنظرياته ومقاييسه, وعلي جرأة التعبير والابتكار في اللفظ والمعني التي تنقل القاريء من حالة إلي حالة جديدة مختلفة, يعتمد فيها علي الخيال والإلهام. ومثل هذا الإبداع لا يكون إلا بالتواصل بين الكتاب والقراء, وليس بالعزلة والوحدة والأبراج العاجية التي تحيل الكتاب إلي قراطيس من ورق وحبر, يهدرون حياتهم بلا طائل. أراد عمر فاخوري للكتاب أن يمشوا وسط الناس في الأسواق العامة والساحات الشعبية والأزقة, لكي يتعرفوا علي الواقع المادي, وعلي همومه ونقصه وقروحه, ويتعرف القراء عليهم ككتاب من لحم ودم, تتطابق كتاباتهم مع ذواتهم, وليس بمقدور أحد حصر الأفكار والصور المتناثرة في أعمال عمر فاخوري. ولكن يمكن أن نوميء إلي أن مدخله إلي قضايا الوطن وحقائق الوجود كان النظر في قضايا وحقائق العالم, لأن السياسة الداخلية للدول لا تحل بعيدا عن السياسة الخارجية, وإلي أن الديمقراطية الحقة هي التي تزيل الحدود بين الطوائف والأديان, وتؤلف أو تجمع بينها, ولا سبيل إلي أن يستكمل المجتمع مزاياه إلا بالتوازن الثقافي. ولا يوجد تعارض بين الثقافة والسياسة, أو بين الكلمة والنضال. وفي المقابلة بين اليقظة والأحلام يري عمر فاخوري أن تخيلات الأحلام أكثر ثراء بتحررها من العقل والمنطق هذه الكتابة التي تطلع بها عمر فاخوري إلي الفردوس المفقود هي الكتابة السهلة ذات المسحة النبيلة, التي تنبع من شخصيات أصحابها, من أعماق نفوسهم ومن تجاربهم الحية التي تتحاور مع الطبيعة والنشر بلغة صحفية لا ترقي إليها الكتابة الصحفية, دون انفصال عن التراث القومي. أما الفردوس المفقود فيقصد به عمر فاخوري الاستقلال عن كل سيطرة أجنبية, والعدل والحرية والكرامة وسلام الشعوب, ويقصد بالتراث ليس فقط الآثار المكتوبة بالفصحي التي يقف علي قمتها المتنبي في الشعر, والجاحظ في النثر, وإنما يشمل التراث الشعبي الشفهي, النابض بالحركة والصدق والوضوح. ورغم تمسك عمر فاخوري بالقيم الاجتماعية والثورية التي تشيد الأوطان والمدنيات, فإنه لم يغض الطرف قط عن جماليات النصوص وأناقة البيان, لأن الأدب فن وذوق, وللفن والذوق قانونهما الخاص بمنأي عن الاعتبارات التاريخية والجغرافية التي قد ترفع إلي القمم أسماء ما يلبث الزمن أن يغمرها بالنسيان, أو تتجاهل أسماء أخري يقيض لها أن تملأ الدنيا, وتطبق شهرتها الآفاق. ولعمر فاخوري عدد من الكتب المؤلفة والمترجمة, عرف قدرها, وقدر من أنتجها جيله والاجيال التالية, وتتمثل هذه المعرفة الجيدة في الاحتفالات التي أقيمت في وداعة, وفي إحياء ذكراه, وشارك فيها الأدباء والنقاد من كل الأقطار العربية, بما فيها مصر التي كانت حاضرة دائما بثقافتها في وعيه. كما يتمثل هذا التقدير في المجلات والملفات الخاصة والمقالات والكتب التي وضعت عنه في هذه الأقطار, بصفته أحد أعلام الثقافة العربية الحديثة, الذين طوروا انجازاتها في النصف الأول, من القرن العشرين, وأصبح رمزا من رموزها الإنسانية.