تعود جذور الأزمة الممسكة بخناق الوطن حاليا إلي أخطاء, بعضها قاتل, ارتكبت في المرحلة الانتقالية الأولي بعد الثورة الشعبية العظيمة في يناير.2011 ولشديد الأسف يظهر أن المرحلة الانتقالية الثانية بعد اندلاع الموجة الثانية في30 يونيو, تتعثر هي الأخري, وقد تسفر عن اشتداد حدة الاحتراب الأهلي في مصر وتقترب بالبلاد من حافة حرب أهلية تهلك وتدمر. وكما يتوقع في المواقف التاريخية المركبة لا يمكن تحميل الخطأ لطرف واحد أو حصره في واقعة بعينها. ليس صحيحا أن تيار اليمين المتأسلم, ولا نقول الإخوان فقط عمدا, قد التزم بالاحتجاج السلمي علي ما يعتبره غبنا سياسيا وقع عليه. ولو كان التزم بالسلمية فعلا بصرامة لكان استعاد بعضا من الاحترام والتقدير الشعبي كفصيل سياسي يتعين أن نرحب جميعا بمشاركته في الحياة السياسية في مصر بشرط الالتزام بالترفع عن الاتجار بالدين وبنبذ العنف. ولكن اليمين المتأسلم كما اتجر بالدين فقد اتجر بالسلمية, يتشدق بها دوما, ويكفر بها أبدا, وليس جديدا عليهم. وحيث يحسن ألا نستبق التحقيقات القضائية الواجبة التي كان يجب أن تتسم بقدر أكبر من الفاعلية والسرعة, أكتفي بالإشارة إلي الوقائع المسجلة من وقائع العنف الهمجي من قبل أتباع التيار, من قبيل إلقاء صغار السن من أعلي المباني, والقبض علي أشياع التيار, وحتي بعض قياداته, المتجهين للاعتصامات المفترض فيها السلمية مسلحين بالخوذات والأسلحة والمفرقعات واكتشاف تخزين الأسلحة والمفرقعات بمقارهم علي مختلف أنواعها. هذا ناهيك عن نفخ نار الفتنة والتحريض السافر علي العنف من منصات الاعتصامات المفترض فيها أنها سلمية. ولا يقتصر هذا السلوك الفاضح بتبني العنف علي أتباع الإخوان وإنما شارك فيه أنصار فصائل أخري من التيار يفترض أنها أسهمت في التحالف الوطني الذي رعي خطة الطريق التي أعلنتها قيادة القوات المسلحة في3 يوليو. والآن يتبين أن تلك المساهمة لم تكن خالصة القصد لوجه الله والوطن وإنما كانت علي الأرجح للقفز علي موقع تمكن سياسي قدروا أنه قد خلا بسقوط سلطة الإخوان. وقد تبدت الشواهد علي ذلك الظن في ممارسة حق منتزع للنقض علي اختيار شخص رئيس الوزراء من دون التزام بالمشاركة في الوزارة أو بالمصالحة الوطنية, بينما استمرت مشاركة أنصارهم في اعتصام إمارة السوء في إشارة رابعة العدوية, وفي التجمعات الزاحفة منها لإثارة الفوضي وإزعاج المواطنين الأبرياء, ما أثار بدوره حفيظة هؤلاء المواطنين وقيام اشتباكات مع الزاحفين لقطع الطرق ولتكدير السلم الأهلي. ويتعين علي قيادات اليمين المتأسلم وأتباعهم المضللين أن يتفهموا أنهم بذلك العدوان يخسرون كثيرا من القليل الباقي لهم من تعاطف شعبي. وقد بلغ تقويض السلمية حافة هاوية بالغة الخطورة في تكرار الهجمات المسلحة علي المواقع الأمنية في سيناء بأسلحة متطورة أحيانا, وفي زرع جسم متفجر بجوار مديرية أمن المنصورة الأسبوع الماضي. وهكذا ظلت الدماء المصرية الزكية الحرام علي الجميع أيا كان انتماء أصحابها تسيل, من جميع فرقاء الأزمة الراهنة, يتحمل وزرها من يقودون السلطة المؤقتة كما اليمين المتأسلم الذي ادعي السلمية زيفا ومتاجرة. كما أن السلطة المؤقتة لم ترق إلي مستوي المسئولية ربما نتيجة لحرص أزيد من الواجب علي المصالحة الوطنية الشكلية. ولا أخفي أن خيبة أملي الأكبر تتركز علي وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية الأخري التي لم ترق لوعدها المقدر بحماية التظاهر السلمي, والذي كان يقتضي الكشف السريع, إن لم يكن الاستباقي, عن من يستغلون الحق ويهدرونه وتقديمهم للمحاكمة علي وجه السرعة. ولذلك تمتد خيبة الأمل في السلطة التنفيذية إلي وزارة العدالة الانتقالية والمصالحة الوطنية التي استبشرت باستحداثها في تلك الوزارة المؤقتة وكذلك إلي وزارة العدل التي قد يشفع لها, ولكن فقط جزئيا, تأخر التكليف بها عن مجمل التشكيل الوزاري. فقد أسهم استمرار غموض الموقف القانوني من الرئيس المعزول ومن مهددي السلم الأهلي, وبطء محاسبتهم قانونا في صب الزيت علي نار الأزمة التي نجمت عن قرارات3 يوليو. إذ في النهاية بسلوكها المتسم بالبطء والتراخي وإيثار السلامة, تركت السلطة القائمة الحرائق تزداد اشتعالا, والموقف الداخلي يزداد تأزما, والعلاقات الخارجية للوطن تشتد تعقيدا. إلي أن أجبرت قيادة القوات المسلحة علي المبادرة بالتصرف, متأخرة أيضا, وربما غير موفقة. كنت خارج مصر حين دعا وزير الدفاع الشعب إلي الاحتشاد بالشوارع والميادين لتفويضه بمكافحة العنف والإرهاب. ولا أنكر أن تفضيلي كان, ومازال, ألا يدعو إلي الحشد الشعبي, خاصة في يوم كان اليمين المتأسلم قد دعا فيه إلي الاحتشاد مستحضرين ذكري غزوة بدر, وكأنهم يشنون حربا إسلامية علي المشركين, ممن لا يناصرونهم من باقي الشعب المصري, وبئس الاستحضار. ولم يغب عن بالي أن كان لدي الفريق السيسي معلومات بخطر محدق لمح لها من دون تفاصيل. والحق أنه حتي إن توافرت له مثل هذه المعلومات فالتصرف الحريص علي مصلحة الوطن, والذي لم يكن بحاجة لتفويض جديد له ولا للسلطة الانتقالية بكاملها, كان هو الضرب بحسم وعزم, في أقرب فرصة ممكنة علي من يحاولون العبث بأمن الوطن والمواطنين بالإرهاب الخسيس, مع الالتزام الكامل بالقانون وبالحقوق المدنية والسياسية. إن الفقرات السابقة تنطوي علي ما كان يتوجب فعله لتفادي تعثر المرحلة الانتقالية الثانية والتي قصرت السلطة التنفيذية وتيارات اليمين المتأسلم معها عن الارتقاء إلي دورها الذي يفرضه الواجب الوطني فيها. أما الآن وقد وقعت الواقعة وسقط مئات بين قتلي وجرحي في مواجهات في القاهرة والإسكندرية وأماكن أخري فلا مناص من وقفة جادة مع جميع الأطراف. لقد بات واضحا أن بعض المتظاهرين لا يتمسكون بالسلمية كما تتفهمها قوي الأمن. ولابد هنا من إبداء الدهشة من أن العنف لم يندلع والإصابات لم تقع إلا بمناسبة مسيرات أتباع اليمين المتأسلم بينما خلت مظاهرات الجماهير الغفيرة التي خرجت لتفويض أولي الأمر بمكافحة الإرهاب من أي مظاهر للعنف. والتفسير المنطقي الوحيد هو إما أن هؤلاء المتظاهرين لم يلتزموا بالسلمية أو أن قوي الأمن لم تلتزم معهم بأقصي درجات ضبط النفس. وبصرف النظر عن الاتهامات المتبادلة عبر وسائل الإعلام التي قد لا تستطيع الالتزام بالحياد التام. فإن الحرص علي سلامة المرحلة الانتقالية, يوجب ما يلي: أولا: تأكيد أولي الأمر في هذه السلطة المؤقتة جميعا ومجددا حقوق التظاهر والاعتصام السلمي. ثانيا: تشكيل لجنة تحقيق قضائية في أحداث26 يوليو تعلن نتائجها علي وجه السرعة. ثالثا: الإسراع بالإجراءات القانونية الواجبة ضد من يتبين مخالفتهم للقانون أو لواجبات وظائفهم, مع ضمان جميع حقوقهم. وأخيرا, الإسراع بإنجاز جميع مهام المرحلة الانتقالية الثانية حتي تكتمل البنية القانونية والمؤسسية للدولة المدنية الديمقراطية التي قامت الثورة الشعبية العظيمة طلبا لها. لمزيد من مقالات د . نادر فرجانى