لا شك في أن أزمة السد الإثيوبي جديرة بإثارة قلق ومخاوف المصريين. غير أن البداية الصحيحة للتعامل معها تكمن في النظر بعمق وشمول إلي دلالاتها بالنسبة للسياسة المصرية وطريقة إدارة ملفاتها الخارجية والداخلية علي حد سواء. فهناك مفارقة كبيرة بين المبادأة وسرعة الفعل المتبعة في الداخل, والتراخي في رد الفعل علي ما يحيق بمصر من الخارج. داخليا, لم يعد خفيا أن سلطة الحكم في مصر تواجه بحرب شرسة ومحاطة دائما ببيئة متربصة وسلسلة متواصلة من الانتقادات ليس بهدف تصويب المسار أو تصحيح أوضاع, وإنما فقط تضخيم وأحيانا افتعال أخطاء. تلك الأجواء المعادية ربما أسهمت بشكل جوهري في أن معظم القرارات والإجراءات التي اتخذت علي مدار العام الذي مضي منذ تولي الرئيس محمد مرسي مقاليد الحكم, غلب عليها التسرع وغاب عنها التقدير السليم لردود الفعل والتداعيات التي قد تترتب عليها. يستثني من ذلك الإعلان الدستوري الرئاسي الأول في11 أغسطس2012 والذي زحزح المجلس العسكري خارج دائرة الحكم والسلطة السياسية المباشرة. أما ما بعد ذلك من قرارات وإجراءات فكلها تقريبا جاءت متعجلة واستباقية, فبدت غير مبررة وإقصائية. رغم أن بعضها كان صحيحا في مضمونه, إلا أن ضعف الإخراج وثغرات الصياغة والتقصير الإعلامي في إقناع المجتمع بها, كلها عوامل أظهرت أداء السلطة الحاكمة كمن يسابق الزمن لتغيير الواقع المستقر منذ عقود وتشكيل واقع جديد وفق حسابات إقصائية ضيقة وليس من منطلق وطني واسع, فيصطدم في طريقه بحواجز قانونية وأمنية ومؤسسية. وبدلا من أن يدفعه ذلك إلي التريث وإعادة النظر في كيفية اجتياز تلك العقبات بسلاسة ودون تعثر. يغمض عينيه ويضاعف سرعته ويوسع من خطواته علي أمل القفز فوق أكبر عدد من الحواجز في اسرع زمن ممكن. بهذا التشبيه يمكن إلي حد بعيد النظر إلي معظم القرارات السياسية والاقتصادية في الأشهر الماضية, مثل الإعلان الدستوري وإعلان الطوارئ في بورسعيد وإغلاق المحال في العاشرة وتعديل قانون انتخابات مجلس النواب للمرة الثالثة بعد رفضه من الدستورية مرتين. وأخيرا إصرار مجلس الشوري علي استكمال مناقشة تعديلات قانون السلطة القضائية حتي بعد أحكام المحكمة الدستورية العليا التي أقرت ضمنا باستمرار المجلس لحين انتخاب مجلس النواب. وقبل أن تهدأ الأزمة القضائية يبادر المجلس إلي مناقشة قانون الجمعيات الأهلية الذي سيفجر بدوره أزمة جديدة. مقابل هذا التعجل في الداخل, هناك بطء واستهانة في التعامل مع الخارج. صحيح أن كثيرا من الملفات والقضايا تراكمت الأخطاء فيها حتي صارت كوارث مؤجلة وقنابل موقوتة بفعل ركود وجمود السياسة الخارجية المصرية في عهد مبارك. لكن المؤكد أن عاما كاملا كان يكفي نظام حكم جديدا جاء بعد ثورة, ليس للتعرف علي الملفات والمشكلات والأزمات, فهي معروفة بمعطياتها وأبعادها لكل الجهات والمؤسسات المعنية التي تدرك أيضا الخيارات المتاحة والضرورية إزاءها. وإنما كان المطلوب اتخاذ قرارات واضحة ومحددة مسبقا وتنفيذ خطوات كانت مؤجلة لسنوات. مثل إغلاق الأنفاق الحدودية وتطهير سيناء من بؤر العنف والسلاح وتطوير علاقة متوازنة مع إيران والحفاظ علي كرامة المصري خارج بلده. كما كان مطلوبا وبشدة الإيذان بتعديل سياسات وتطبيق إجراءات جديدة في اتجاهات بعينها, علي رأسها إعادة مصر إلي إفريقيا واستعادة إفريقيا إليها. والإقبال علي دول حوض النيل بعقلية جديدة ورؤية منفتحة تسعي إلي تنمية الموارد وتعظيم منافعها المشتركة, بإرادة صلبة تجمع بين الحرص علي التعاون والبعد عن التهاون. المشكلة الحقيقية ليست في سد إثيوبيا فقط, فهو مجرد مثال علي حزمة تهديدات كامنة في جبهات متعددة, تنذر كلها بخطر داهم علي أمن مصر وحياة شعبها. فمصر تعاني بالفعل انتشار السلاح المهرب عبر الحدود الغربية. والممرات المفتوحة عبر الأنفاق في الحدود الشرقية, بينما تلوح في الأفق قضية الصراع علي النفط والغاز في المياه الإقليمية والدولية علي الحدود الشمالية. إدارة تلك الملفات بعد الثورة تعكس استهانة غير مبررة بتلك المخاطر, وبالتالي تراخيا في التصدي لها. نظام مبارك كان لديه من المقومات الداخلية والمواءمات الخارجية ما يتيح له التعامل مع مصادر التهديد وتجنب أخطارها ولو جزئيا أو مرحليا. وليس لدي السلطة الحالية في مصر لا هذه المواءمات الداعمة ولا تلك المقومات المساندة. لذا كان لا بد من إحداث انقلاب في وتيرة وآليات التفاعل مع تلك الملفات, وكانت هي الأجدر بالاستباق والمواجهة المبكرة وتغيير المعالجات القديمة التي فقدت مصادرها وزالت أسسها بزوال عهد مبارك. الحيوية والسرعة المتبعة في القضايا والملفات الداخلية, مكانها الصحيح هو الملفات المتعلقة بأمن وسيادة مصر وحياة شعبها. بالطبع ليس المطلوب تحويل الأداء الداخلي إلي تراخ أو جمود خصوصا في مواجهة منظومة الفساد ومنتفعي نظام مبارك. لكن مطلوب بشدة استدعاء تلك الهمة والحيوية في معالجة قضايا وملفات لا تقل أهمية أو خطورة. هناك حاجة ماسة إلي تفعيل منطق الفعل الاستباقي المطبق في الداخل, بدلا من نمط رد الفعل المتخاذل أمام مخاطر الخارج. لمزيد من مقالات سامح راشد