يعيش بعض البشر في الحاضر بعقليات وقناعات الماضي. حيث تقتصر قدراتهم علي العمل في إطار ضيق يعكس أوضاعا تغيرت ومعطيات لم يعد لها وجود. وينطبق ذلك الوضع علي كثير من أحوال وأطراف الحياة السياسية في مصر, إذ عقم الساسة وتحولت السياسة إلي عملية استنساخ متكرر لذات الأفكار والمواقف بل والأشخاص, ربما فقط مع تدوير المواقع وتبادل الأدوار. فقبل عامين فقط كان مبارك ورجاله في الحكم, بينما الإسلاميون خارج الحياة السياسية وكثير منهم داخل السجون. الآن الإسلاميون في السلطة وأولئك في السجن مكانهم. ورغم ذلك يحكم الأخوان المسلمون مصر بمنطق الجماعة المحظورة. لا تزال الجماعة تفكر بعقلية الجيتو ولم تخرج بعد من العزلة النفسية والتنظيمية التي فرضت عليها لعقود وتعايشت معها حتي أصبحت جزءا من شخصيتها. ورغم وصولها إلي السلطة, لا يزال تعامل الأخوان مع الآخرين محكوم بذات الصفات: الارتياب في كل من هو خارج دائرة الانتماء المباشر للجماعة. التفكير اللحظي, فكل ما يتلو اللحظة الراهنة غير مضمون وقد لا يتم الوصول إليه أصلا. لذا تتغير المواقف ويتبدل التحالف والتنسيق إلي الاختلاف والاستهداف بسرعة قياسية لأسباب أو مكاسب مؤقتة. ورغم التناقض الفكري, وبالتبعية السياسي, مع التيارات والاتجاهات الأخري; لا يزال الأخوان( الجماعة/الحزب/السلطة) يرفعون شعارات الوسطية والتسامح والانفتاح علي كل التيارات والتنسيق فيما يتفق حوله والتجاوز عما يختلف عليه. إلا أن ذلك التناقض يظهر تلقائيا في التعامل الفعلي فتصبح السلوكيات المتبعة تجاه الآخرين إقصائية وليست احتوائية. فرغم أن مصر بصدد حاضر جديد وواقع مختلف, يتفاعل معه الأخوان بسلوك وتفكير ماضوي بامتياز. المعارضة ليست أفضل حالا; إذ لم تتغير جوهريا خريطة المعارضة في مصر منذ أواخر عهد السادات; ذات التكوينات والتوجهات بل والمسميات. حتي بعض التنظيمات والشخصيات الوطنية أو الثورية التي توافقت معها في الاعتراض علي حكم الإسلاميين, خضعت لسياقاتها العتيقة وقوالبها الرثة بدلا من تحديثها وتثويرها. تلك المعارضة التقليدية في مصر لم تتعلم يوما العمل السياسي الحقيقي الذي يسعي إلي رجل الشارع ويخاطب احتياجاته ويقدم حلولا لمشاكله. اضطرت حتي أجادت اللعب وفق قواعد السلطة. استمرأت التحرك داخل حدود المسموح, فتعود تلقائيا إلي المسار المرسوم حتي لو خرجت عليه قليلا, انتظارا لعطايا السلطة أو تجنبا لبطشها. عندما فوجئت المعارضة بالثورة وبأن الشعب أصبح رقما أساسيا في المعادلة, كان قادتها أول من رفض الاحتكام إلي الشعب من اللحظة الأولي.. وهرعوا يطلبون من المجلس العسكري عدم الانسياق وراء الإسلاميين والتريث في إجراء أي انتخابات.. بحجة التسلسل المنطقي وأن الدستور يجب أن يكون أولا, وغير ذلك من حجج صحيحة, لكنها كانت حقا يراد به باطل هو تجنب رأي الشعب. وهو ما تكرر مؤخرا بشأن الاستفتاء علي الدستور بزعم أنه غير توافقي وصيغ علي عجل. وسيتكرر هروب المعارضة من مواجهة الشعب بأن تطلب تأجيل الانتخابات البرلمانية, ربما هذه المرة بحجة الاضطراب الأمني أو بأن الإسلاميين سيسخرون الأجهزة التنفيذية لصالحهم.قديما كان يطلق علي المنظرين والمثقفين ممن يتحدثون عن الطبقات الكادحة وهم بعيدون عنها, أصحاب الياقات البيضاء. في ظل العولمة وتقدم تقنيات الاتصال الجماهيري, انتقل هؤلاء من التنظير وتبادل التقييمات والتحليلات فيما بينهم, إلي دغدغة الجماهير البسيطة ودندنة الشعارات الرنانة عبر الإعلام, فتحولوا إلي ساسة فضائيات ومناضلي ميكروفونات. رغم حداثة الحاضر وتقدم أدواته واختلاف جوهره ومعطياته, لا يزال الفعل السياسي في مصر فعلا ناقصا, يجتر الماضي ولا يغيره. المزيد من مقالات سامح راشد