في يوم السبت الموافق25 اغسطس من العام الماضي, نشرت في صحيفة الاهرام مقالا بعنوان: كلام المسئول, ومسئولية الكلام, عندما لاحظت ان بعض تصريحات المسئولين لا تتناسب مع المقام او المقال, وأوضحت خطورة ذلك بوجه عام, وعلي المستوي الدولي بوجه خاص, حيث يمكن لتصريح يصدر من مسئول غير مكترث ان يؤدي الي مصائب وكوارث لبلاده, وعلي الأخص اذا كان الموضوع يتعلق بالأمن القومي. قلت بوضوح انه عندما يتحدث المسئول, أي مسئول, ينبغي لمن يهمه الأمر أن يصغي, فكلام المسئول يختلف عن أي كلام, ويفترض أن تكون كل كلمة من كلامه موزونة بميزان الذهب, ذلك أنه من البدهي أنه يتحدث عن علم ودراية, وتحمل كلماته زبدة آراء عشرات الخبراء والمتخصصين, إلي درجة أنه غير مسموح له بالخطأ! لذلك فإن المسئول لا يستطيع مثلا أن يتحدث مثل باقي خلق الله علي راحته, ويفضفض مرشرشا كلماته كيفما اتفق, لا يمكنه أن يقول الشيء ونقيضه في نفس واحد, أو يتلعثم ويتلجلج مفتشا عن الكلمات, بل ينبغي أن تخرج كلماته وكأنه يقرأ من كتاب مفتوح غير موجود أمامه.. وقد لا يهم كثيرا أسلوب العبارة أو درجة البلاغة, لكن أضعف الإيمان أن تكون كلماته سليمة لغويا, وأن يتحلي الأسلوب بقدر من الدقة والاختصار, بحيث لا يكون التكرار إلا حسابا محسوبا ولهدف له تقديره. يجب علي المسئول أن يتكلم حين تقتضي الحاجة ذلك, وأن يصمت خارج ذلك, فالكلام عمال علي بطال كما يجري المثل السائر يؤدي إلي ارتكاب الأخطاء, وإلي ملل العامة وعدم شعورهم بجدية ما يقال, بل قد يقود إسهال التصريحات إلي إيقاع الحكومة كلها في الحرج, خاصة أن إغراء الكلام بالنسبة للسياسي لا يفوقه سوي الرغبة الجامحة في إرضاء المستمعين وبذل الوعود المغدقة, ورسم صورة مشرقة لواقع ومستقبل قد يكون أقل إشراقا.. من ناحية أخري, فإن صمت المسئول والتزامه الصوم عن الكلام, مصيبة لا تقل سوءا عن مصيبة الثرثرة, وهذا النوع الصامت من المسئولين يحاول إتقاء شرور الكلام وما قد يجره عليه من مشاكل وخاصة فقدان كرسي السلطة, وما أدراك بهذا الكرسي الذي له خواص مغناطيسية فريدة, إلا أنه من أهم مقتضيات هذا الكرسي أن من يجلس عليه يكون مسئولا, وكل مسئول يجب أن يقول أو يقال! فالكرسي ليس هبة شعبية تمنح مكافأة لشخص ما, وإنما هو تكليف شعبي لأداء وظيفة شاقة, والذين يمنحون هذا التكليف لهم الحق في معرفة كيف تدار الأمور, ولن يعرفوا ذلك إذا التزم المسئول الصمت. ويبدو ان احدا لم يعد يقرأ في هذا الزمن, او ربما يقرأ ولا يفهم او يكترث, فلا يكاد يوم يمضي الا وخرج تصريح من مسئول وكأنه يتحدث مع زوجته حول شئون المطبخ, وقد زاد الطين بلة ان الرئيس يجيد الخطابة او يستمتع بالإلقاء الجيد, ويمارس في احيان كثيرة موهبته في الارتجال, وكأننا في سوق عكاظ, وهكذا تتكرر الأخطاء التي يمكن ان نغفرها له اذا كان مثلنا مواطنا غير مسئول, اما وقد اصبح في موقع هزله جد, وكل كلمة تصدر عنه تعتبر التزاما علي شعب مصر, فان الاسهال اللفظي قد يوقعنا في مشاكل لا حصر لها, ومثال علي ذلك اول تصريح صدر عن الرئاسة بشأن قيام اثيوبيا بتحويل مجري النيل الأزرق, حيث قيل انه لا يوجد تأثير ضار علي مصر جراء هذا التصرف, والمعني القانوني والدبلوماسي لهذا العبارة البسيطة التي خرجت دون عناية كافية, هو ان مصر لا تمانع في قيام اثيوبيا ببناء سد النهضة, وأنها تسلم بعدم وجود أضرار عليها.. وذلك غير صحيح. في مختلف دول العالم يتولي كتابة خطابات الرئيس مجموعة مختارة بعناية ويخضع كل سطر لتمحيص وتدقيق من الخبراء في كل مجال, واذا كان الخطاب يعالج موضوعا حساسا ازدادت العناية والتمحيص, ويفترض التزام الرئيس بالنص المكتوب دون خروج عن اي كلمة فيه, والارتجال محظور في المسائل المهمة مثل تلك التي تتعلق بالأمن القومي. وبعد تلك المسرحية الكلامية التي نقلها تليفزيوننا الرسمي من علي خشبة قصر الاتحادية, لا تكفي الدهشة او إبداء الغضب, بل يجب ان يحاسب المسئول عن هذه المهزلة, ولا يجوز محاولة التماس الأعذار والبحث عن مبررات واهية, لان ذلك قد يتسبب في تفاقم هذه الحالة المرضية بمسئولين يجهرون بكلام غير مسئول. لمزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق