عندما يتحدث المسئول, أي مسئول, ينبغي لمن يهمه الأمر أن يصغي, فكلام المسئول يختلف عن أي كلام, ويفترض أن تكون كل كلمة من كلامه موزونة بميزان الذهب, ذلك أنه من البدهي أنه يتحدث عن علم ودراية, وتحمل كلماته زبدة آراء عشرات الخبراء والمتخصصين, إلي درجة أنه غير مسموح له بالخطأ! لذلك فإن المسئول لا يستطيع مثلا أن يتحدث مثل باقي خلق الله علي راحته, ويفضفض مرشرشا كلماته كيفما اتفق, لا يمكنه أن يقول الشئ ونقيضه في نفس واحد, أو يتلعثم ويتلجلج مفتشا عن الكلمات, بل ينبغي أن تخرج كلماته وكانه يقرأ من كتاب مفتوح غير موجود أمامه.. وقد لا يهم كثيرا أسلوب العبارة أو درجة البلاغة, لكن أضعف الإيمان أن تكون كلماته سليمة لغويا, وأن يتحلي الأسلوب بقدر من الدقة والإختصار, بحيث لا يكون التكرار إلا حسابا محسوبا ولهدف له تقديره. يجب علي المسئول أن يتكلم حين تقتضي الحاجة ذلك, وأن يصمت خارج ذلك, فالكلام عمال علي بطال كما يجري المثل السائر يؤدي إلي ارتكاب الأخطاء, وإلي ملل العامة وعدم شعورهم بجدية ما يقال, بل قد يقود إسهال التصريحات إلي إيقاع الحكومة كلها في الحرج, خاصة أن إغراء الكلام بالنسبة للسياسي لا يفوقه سوي الرغبة الجامحة في إرضاء المستمعين وبذل الوعود المغدقة, ورسم صورة مشرقة لواقع ومستقبل قد يكون أقل إشراقا.. من ناحية أخري, فإن صمت المسئول والتزامه الصوم عن الكلام, مصيبة لا تقل سوءا عن مصيبة الثرثرة, وهذا النوع الصامت من المسئولين يحاول إتقاء شرور الكلام وما قد يجره عليه من مشاكل وخاصة فقدان كرسي السلطة, وما أدراك بهذا الكرسي الذي له خواص مغناطيسية فريدة, إلا أنه من أهم مقتضيات هذا الكرسي أن من يجلس عليه يكون مسئولا, وكل مسئول يجب أن يقول أو يقال! فالكرسي ليس هبة شعبية تمنح مكافأة لشخص ما, وإنما هو تكليف شعبي لأداء وظيفة شاقة, والذين يمنحون هذا التكليف لهم الحق في معرفة كيف تدار الأمور, ولن يعرفوا ذلك إذا التزم االمسئول الصمت. لقد عرف التاريخ البشري أنواعا مختلفة من المسئولين, ومن يقرأ التاريخ يجد العجب لكنه يتعرف أيضا علي الدرس والعظة, فهناك نوع من الوزراء ينظر إلي مسألة استوزاره وكأنها مكافأة مستحقة لقدراته العبقرية الخاصة, وأنه يعلم ما لا يعلمه الآخرون, وسواء تكلم أو صمت فلن يفهمه أحد, وهو لذلك يمشي في الأرض مرحا, متعاملا مع الناس في انفة واستعلاء وغرور, ولا يجوز لأحد أن يراجعه أو يرد له قرارا, فهو المعصوم الذي اختارته العناية الإلهية لشغل هذا المنصب الخطير كي ينقذ الدهماء من سوء المصير.. هذا النوع يوجد بكثافة خاصة في دول العالم الثالث, ولديه خاصية الكلام حين ينبغي الصمت والصمت حين ينبغي الكلام, فهو في حالة كلام دائمة عن كل شئ, وليس بالضرورة إختصاص وزارته, فعبقريته شملت كل شئ, من محاولات غزو الزهرة والمريخ إلي مشاكل التزاوج بين العناكب, وهذا النوع لا يأبه بمعاونيه, فهو يسفه آراءهم دون أن يكلف نفسه مشقة الاستماع إليها, ويحولهم إلي نوع كئيب من الأختام الحكومية التي تبصم علي تجلياته العلوية, ويصبحون تدريجيا نسخا مكررة منه, لا يرون إلا ما يراه, ولا يسمعون سوي ما يسمعه, ويفقدون القدرة علي المبادأة والإبتكار أو النصح المخلص إذا كان ذلك واجبا.. يصبحون باختصار كائنات مشوهة. نوع آخر من الوزراء يخاف حتي من ظله, وهو علي عكس النوع الأول لا يدعي لنفسه عبقرية من أي نوع, بل يتعمد إبداء التواضع والخضوع والإفراط في ذلك, هو لا ينهي أو يأمر, وإنما في حالة إستقبال مستمرة, فإذا نطق فإنما للشكر والموافقة, وإلا فالصمت الجميل, وهذا النوع في تاريخ الأمم يمر كمر السحاب دون بصمة أو أثر, وهو يلزم معاونيه بما ألزم به نفسه, فيتحولون تدريجيا إلي أصنام متحجرة, لا تقول ولا تسمع ولا تتكلم, والويل كل الويل لمن تسول له نفسه منهم أن يقترح اقتراحا يعني أي تحرك, بل ثكلته أمه ذلك الذي يتجرأ ويحمل خبرا سيئا ولو كان ذلك من مقتضيات وظيفته! نوع ثالث من الوزراء يشغل المنطقة الوسطي ما بين النوعين السابقين, فلديه قدر من الغرور الذي لا تشفعه له قدراته الذاتية, ولديه قدر من الخوف يقوده إلي الخلط والتشوش, فهو إنسان قادته ظروف ما لشغل وظيفة هو غير مؤهل لها, كمثل من يرتدي ثوبا واسعا يتعثر فيه, فهو إذا تحدث قال بغير علم أو دراية, ونفس الحال في الصمت أيضا, وهذا النوع تابع لأي رأي ينقذه من نقص درايته, لذلك يسهل لبعض معاونيه التسلط عليه وقيادته كما تقود الأم طفلها الصغير, إلا أن الآراء تختلف وقدرات المعاونين أيضا, لذلك تصبح الهوائية صفة لصيقة بوزارته, فكل يوم بحال وفقا لمزاج الوزير كل صباح في علاقته بمن يحيطون به... منصب الوزير هو منصب سياسي قيادي بالدرجة الأولي, لا يتطلب بالضرورة تفوقا فنيا في تخصص وزارته, فليس كل طبيب عبقري مثلا يكون وزيرا ناجحا لوزارة الصحة, والوزير مسئول بالقطع أمام رئيسه ولكن مصدر المسئولية ليس العلاقة الشخصية وإنما مواد الدستور والقوانين المنظمة لعمل وزارته, إلا أنه وذلك هو الأهم مسئول أيضا أمام الشعب الذي هو مصدر كل السلطات, وهذا الجانب بالذات هو الذي يعطي لمنصب الوزير صفته القيادية السياسية, فهو مسئول عن توضيح وشرح سياسات وزارته والدفاع عنها إذا لزم الأمر, وذلك يتطلب قدرات خاصة في مخاطبة الجماهير بالشكل وفي التوقيت المناسب. قد يكون عمر الوزارة سنوات أو بضعة أشهر أو أياما, ولكن الرصيد الباقي لأي وزير لن يكون بمقدار ما شغله صوته من موجات الهواء, وإنما بما أنجزه من عمل إيجابي لصالح الناس الذين تعاقدوا معه علي شغل هذا المنصب, ولكنه يجب أن يتكلم بالطبع, شريطة أنه إذا تكلم يجب أن يكون كلامه كلام مسئول... المزيد من مقالات السفير معصوم مرزوق