صحيح أن أمل دنقل رحل عن عالمنا منذ ثلاثين سنة, ولكني عندما أعاود قراءة قصائده, أشعر أنه يعيش معنا ويخاطبنا, نحن الذين انقلب حلمنا البهيج بثورة الخامس والعشرين من يناير2011 إلي كابوس مخيف, لايزال ينيخ بكلكله علي الصدور. حسبي- أولا- أن أستعيد قصيدته أغنية الكعكة الحجرية التي كتبها عن اعتصام الطلاب في ميدان التحرير نفسه سنة1972 ليدفعوا السادات إلي حرب تحرير الوطن. صحيح أن عهد السادات أزال النصب التذكاري الذي بني أصلا لوضع تمثال عبد الناصر, ولكن ذكري الشباب الذين اعتصموا في الميدان في الخامس والعشرين من يناير2011 تسترجع الصورة الأولي التي حدثت قبلها نحو أربعين سنة, فنتذكر نحن الذين عاصرنا أمل شهداء الطلاب الذين رووا بدمائهم ميدان التحرير في مطلع سنة1972 فكان منهم مقدمة الشهداء الذين سالت دماؤهم الزكية علي أرض الميدان نفسه في الأيام التالية ليوم25 يناير. ولا أدل علي ذلك من المقطع السادس للقصيدة: ظهر الجند دائرة من دروع وخوذات حرب/ هاهم الآن يقتربون رويدا.. رويدا/ يجيئون من كل صوب/ والمغنون- في الكعكة الحجرية- ينقبضون/ وينفرجون كقبضة قلب/ يشعلون الحناجر/ يستدفئون من البرد والظلمة القارسة/ يرفعون الأناشيد في أوجه الحرس المقترب/ يشبكون أياديهم الغضة البائسة/ لتصير سياجا يصد الرصاص/ الرصاص../ الرصاص../ وآه./ يغنون نحن فداؤك يا مصر/ نحن فداء..... وتسقط حنجرة مخرسة/ معها يسقط اسمك- يا مصر- في الأرض تري هل اختلف اغتيال شباب يناير72 عن اغتيال شباب25 يناير.2011 أليس الفاعل في الاثنين واحدا مهما اختلفت الصفات والمسميات؟ وهل هناك مصري لم تدمع عينه علي رؤية صور الشهداء الذين ذهبوا في الحالين؟ وهل تختلف الأوامر العليا للسادات عن الأوامر العليا لمبارك. رحم الله الشهداء في كل زمان, وبالأخص في هذا الزمن القبيح الذي نعيشه, ولم نعرف بعد- رغم مضي الأشهر- من قتل شهداء التحرير ومحمد محمود ومجلس الوزراء وماسبيرو. ألا يتسني- والأمر كذلك- أن نردد مختتم قصيدة أمل: المنازل أضرحة, والزنازين/ أضرحة, والمدي أضرحة وليس من الغريب في هذا السياق أن أذكر تحذير الشاعر للسادات من التصالح مع العدو الإسرائيلي إلا إذا تحقق لضحاياه العدل الذي يقترن بالثأر. وقد بدأ كتابة هذه القصيدة قبل التوقيع النهائي لاتفاقية كامب ديفيد. وكان لقصيدة لا تصالح- بعد اكتمالها ونشرها- وقع القنبلة التي لاتزال تتردد أصداؤها إلي اليوم. خصوصا حين تري انقلاب حال الذين سرقوا الثورة من شباب التحرير, وتوقفوا عن الهتاف ملايين رايحين, شهداء بالملايين, للقدس في فلسطين. وأصبحوا يتباهون بالصداقة مع إسرائيل, ومع حامية حمي إسرائيل, الولاياتالمتحدة التي لاتزال تبارك الحكم الإخواني القائم, رغم مباهاتها أنها حامية الديمقراطية وحقوق المرأة. وما أقسي ما جري للأقليات والمرأة تحت وطأة حكم الإسلام السياسي! أليس من الطبيعي أن نتذكر- والأمر كذلك- هذا المقطع من قصيدة أمل: لا تصالح/ إلي أن يعود الوجود لدورته الدائرة/ النجوم.. لميقاتها/ والطيور.. لأصواتها/ والرمال.. لذراتها والقتيل.. لطفلته الناظرة/ لا تصالح/ فما الصلح إلا معاهدة بين ندين/( في شرف القلب) لا تنتقص. وإسرائيل لاتزال كعادتها لا تعترف بهذا النوع من الصلح العادل, ما ظلت تدوس علي كل شيء بأحذية جندها, حتي في الحرم المقدس, مع استمرار ممارساتها الوحشية الأبعد ما تكون عن العدل والانصاف ومطلب الحرية والاستقلال للآخرين, حتي في حال وجود بلدين وعلمين, تضمنهما أمريكا إمبراطور العالم الجديد والوحيد الذي لا يعترف إلا بالقوة لا العدل. وها نحن لانزال نعيش في أرض ضاقت حتي أصبحت تطوي في بساط النفط, ونعرف أن القاهرة قد غرقت في عتمة ليل طويل, يتردد بين أصدائه صوت أمل الذي توحد في ليل القاهرة الحزين الذي كان- رغم قتامته- أقل ظلمة من ليل قاهرتنا التي فقدت حتي الضوء, فتدفعنا إلي استرجاع صوت أمل: أشعر الآن أني وحيد/ وأن المدينة في الليل/ أشباحها وبناياتها الشاهقة/ سفن غارقة/ نهبتها قراصنة الموت ثم رمتها إلي القاع منذ سنين/ ليس ما ينبض الآن بالروح في ذلك العالم المستكين/ غير ما ينشر الموج من علم.. كان في هبة الريح/ والآن يفرك كفيه في هذه الرقعة الضيقة/ سيظل علي الساريات الكسيرة يخفق/ حتي يذوب رويدا.. رويدا/ ويصدأ فيه الحنين/ دون أن يلثم الريح ثانية, أو يري الأرض أو يتنهد من شمسها المحرقة ومؤكد أن معني الوطنية الذي تعلمناه من أمل يفرض علينا أن نبقي في هذا الوطن ونقاوم ما فيه من ظلم وظلمة, ونظل كذلك نلجأ إلي جبل اسمه الشعب, ونظل نقاوم قائلين مع أمل عن الذين يهربون من الوطن: طوبي لمن طعموا خبزه/ في الزمان الحسن/ وأداروا له الظهر/ يوم المحن/ ولنا المجد نحن الذين وقفنا وقد طمس الله أسماءنا/ نتحدي الدمار/ ونأوي إلي جبل لا يموت/ اسمه الشعب/ نأبي الفرار ونأبي النزوح ويعني تحدي البقاء والدفاع عن حمي الوطن استمرار المعارضة السلمية, إلي أن ترفرف من جديد أعلام الوطن, وتلثم ريح الحرية وشمس العدل, فتعود النجوم لميقاتها, والطيور لأصواتها, ونور الكهرباء بعد كثرة انقطاعها, والرغيف لمن يفتقده, والكرامة الإنسانية لمن سلبت منهم قهرا, وإلا سيظل أمل يقول لنا من قبره: إنها الأرض التي ما وعد الله بها/ من خرجوا من صلبها/ وانغرسوا في تربها/ وانطرحوا في حبها مستشهدين. لمزيد من مقالات جابر عصفور