بل يومين من حلول يوم الذكري الثامنة والعشرين لوفاة أمل دنقل( الذي رحل عنا في الحادي والعشرين من مايو سنة1983) فاجأني برنامج آخر كلام ا لذي يقدمه الأستاذ يسري فودة باقتدار بحلقة خاصة عن أمل دنقل. كان ضيفه الأساسي فيها الأستاذ فاروق شوشة الشاعر الكبير الذي عرف أمل دنقل. وظل علي علاقة مودة به طوال حياته, رغم أن شعر أمل ينتسب إلي مدرسة شعرية هي النقيض الكامل لمدرسة فاروق شوشة التي لا أظنها فارقت الأفق الرومانسي الذي بدأت منه وقد سألني يسري فودة علي الهواء عن إحساسي بأمل دنقل في مناخ ثورة الخامس والعشرين من يناير ولم أتردد كثيرا في الإجابة بأنني ظللت أري قصيدة أمل دنقل الكعكة الحجرية ماثلة حية في الملايين التي ضمها ميدان التحرير, بعد أن تحولت ثورة الشباب التي انبثقت احتجاجا علي نظام استبدادي, كان لابد من رحيله, إلي ثورة الشعب كله, ليس في ميدان التحرير الذي أصبح اسما علي مسمي, بل في كل ميادين مصر من أقصي شمالها إلي أقصي جنوبها. ولمن لم يعاصروا تاريخ ولادة هذه القصيدة التي مضي علي كتابتها تسعة وثلاثون عاما, أحكي لهم عنها, فقد كنا في عام1972, العام الثاني لحكم السادات الذي جاء بعد حكم عبد الناصر الذي لم يتقبل, قط, هزيمة عام1967 الكارثية, فصمم علي إعادة بناء الجيش المصري, وإعداد الوطن كله لمحو عار الهزيمة, مؤكدا أن ما أخذ بالقوة لا يستعاد إلا بالقوة وبالفعل, وفي هذا القائد العظيم بما وعد, وأعلن في خطابه الأخير قبيل وفاته بأشهر معدودة, انتهاء بناء السد العالي, وإتمام عملية بناء القوات المسلحة, وإكمال استعدادها لتحرير الأرض ولكن إرادة الله شاءت أن يرحل عنا عبدالناصر, وأن يصبح السادات خليفة له, معلنا بظاهر اللسان أنه ماض علي طريق عبدالناصر, ومحققا ما وعد به من تحرير الأرض وكانت الأمة قد أعلنت عن رغبتها في بناء نصب تذكاري لعبد الناصر, يتوسط ميدان التحرير, وبالفعل تم بناء قاعدة هذا النصب, رغم أن تمثال عبدالناصر لم يوضع عليها قط, وظلت القاعدة موجودة إلي أن أزيحت أخيرا من الميدان, بسبب تعديل خطوط مترو الأنفاق المهم تململ الطلاب من مماطلة السادات في بدء معركة تحرير الأرض من المحتل الإسرائيلي, وأخذوا يعلنون عن احتجاجاتهم إلي أن فاجأهم السادات بأن العام1972 عام ضباب, لا يساعد علي الحركة والرؤية, فما كان من الطلاب الأحرار إلا أن انفجروا في أعنف مظاهرات شهدها عام1972, وأغلق السادات الجامعات, لكن طلاب جامعتي القاهرة وعين شمس اندفعوا إلي ميدان التحرير, وتحلقوا حول القاعدة التي ظلت بلا تمثال وقرروا الاعتصام حولها, احتجاجا علي تخاذل السادات في بدء حرب التحرير, وتحلقوا حول القاعدة التي رأها أمل دنقل أشبه بالكعكة الحجرية, وظل الطلاب حول النصب أياما, يحتملون البرد مقاومين الجوع, مصرين علي مواصلة الاعتصام واضطر نظام الأمن الساداتي إلي تركهم إلي أن تهدأ فورة حماسهم, ولكن الحماس لم يهدأ, وتحول ميدان التحرير إلي مهوي لأفئدة كل الثائرين علي تخاذل السادات, فحسم الرجل أمره وأصدر تعليماته للشرطة بفض الاعتصام بالقوة, علي أن يكون ذلك والطلاب نيام وبالفعل, تحركت قوات الأمن بعد الفجر, وبدأت هجومها علي الطلاب المعتصمين حول قاعدة التمثال في تمام الساعة الخامسة صباحا, فأصيب الكثير من الطلاب, واستشهد بعضهم نتيجة الهجوم الغادر وعندما ارتفعت الشمس كان الطلاب المعتصمون في السجون والمستشفيات ولكن جدار الصمت الذي حاول نظام السادات فرضه علي الناس كسره صوت أمل دنقل الخشن الغاضب وهو يقرأ مقاطع قصيدته الكعكة الحجرية التي يقول في مطلعها علي لسان أحد شهداء الهجوم الأمني: أيها الواقفون علي حافة المذبحة أشهروا الأسلحة سقط الموت, وانفرط القلب كالمسبحة والدم انساب فوق الوشاح المنازل أضرحة, والزنازن أضرحة, والمدي أضرحة, فارفعوا الأسلحة واتبعوني أنا ندم الغد والبارحة رايتيعظمتانوجمجمة, وشعاري الصباح وانتشرت القصيدة كالنار في الهشيم في كل أرجاء مصر, وتحولت إلي إدانة وتعرية لقوات الأمن وزبانية ما أصبح حزبا وطنيا ارتكب الجرم نفسه, في الميدان نفسه, بعد حوالي أربعين عاما, لكن رجال الأمن لم يواجهوا مئات من الطلاب العزل, هذه المرة, وإنما واجهوا مئات الآلاف من أبناء الشعب كله فسقطت الدماء الذكية لشباب ثورة الخامس والعشرين من يناير2011 وكتبت عهد تحرر مصر الجديدة من استبداد نظام فاسد, ودخلت مصر كلها في مخاض الثورة التي لم تسفر عن وجه مولودها الجديد, فالثورة لم تنته بعد. وكان لابد لها من أن تتوجه إلي الأداة الباطشة لأذرع الأخطبوط الذي كان يطلق عليه اسم أمن الدولة الذي ظل يفترش أرض الوطن, متربصا بالأحرار من أبنائه, مطلقا عليهم أعين مباحثه التي ظلت تتربص بالشرفاء في كل مجال وهي المباحث التي سخر منها أمل في قصيدة من أشهر قصائده, قصيدة صلاة التي نقرأ فيها أبانا الذي في المباحث, نحن رعاياك, باق لك الجبروت, وباق لنا الملكوت, وباق لمن تحرس الرهبوت تفردت وحدك باليسر إن اليمين لفي الخسر أما اليسار ففي العسر إلا الذين يماشون إلا الذين يحشون بالصحف المشتراة العيون فيعشون إلا الذين يشون وإلا الذين يوشون ياقات قمصانهم برباط السكوت تعاليت ماذا يهمك ممن يذمك؟ اليوم يومك وقد ظلت مباحث أمن الدولة قوة قمعية تتربص بكل أبناء الوطن من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار, في زنازينها الوحشية, وفي سجون قهرها الذي لم ينقطع, وظل يطعن أبناء هذا الوطن بحراب الدولة التسلطية, فضلا عن باقي أجهزتها القمعية التي زورت الانتخابات دون حياء, وقضت علي أرواح الأبرياء في السجون, وظلت ترعي ترزية القانون الذين قننوا للتوريث, وصاغوا تعديلات دستورية, هي الأسوأ في تاريخ الدساتير الحديثة, وذلك لإرضاء الرئيس السابق الذي جثم حكمه علي صدر الوطن ثلاثين عاما بمعاونة الفساد والمفسدين, ودعم الزواج الحرام بين الثروة والسلطة, وكانت النتيجة ازدياد عدد الملايين التي لا تزال تعيش فيما هو أدني من خط الفقر, والملايين الموازية التي لا تجد مسكنا لائقا, والملايين الأكثر التي لا تجد تعليما مناسبا هكذا عرفت مصر كلها الهوان, وبدت القاهرة كأنها: سفن غارقة نهبتها قراصنة الموت ثم رمتها إلي القاع منذ سنين وتشبث بحارة الأمس فيها بأعمدة الصمت في الأروقة يتسلل من بين أسمالهم سمك الذكريات الحزين ليس ما ينبض الآن بالروح في ذلك العالم المستكين غير ما ينشر الموج من علم كان في هبة الريح والآن يفرك كفيه في هذه الرقعة الضيقة سيظل علي الساريات الكسيرة يخفق حتي يذوب رويدا رويدا ويصدأ فيه الحنين دون أن يلثم الريح ثانية, أو يري الأرض أو يتنهد من شمسها المحرقة اللافت للانتباه, حقا, أن أغلب شعر أمل المتمرد علي الواقع القمعي, تمت كتابته في عهد السادات, رافضا كل ما فيه من فساد وهوان وسجون قمعية, غيبت أصحاب أمل الذين ظل يذكرهم في ليالي الشتاء الحزين وظل هذا الشاعر الجنوبي ذو الوجه الذي تشبه ملامحه ملامح وجه أخناتون, منطويا علي اللهب المقدس لجمر الرفض, واقفا في صف الذين يقولون لا في وجه من يقولون نعم, متنقلا بقصائده المتقدة كالجمر بين شباب الجامعات الثائر, موجودا, دائما, في كل تظاهراتهم, فأحبه شباب الجامعات الثائر, ولاذوا به, بالقدر الذي جعلوا شعره ناطقا بلسانهم, رافضا إذعان السادات للضغط الأمريكي وقبوله فكرة السلام مع إسرائيل, وانتهي الأمر بتوقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل في سبتمبر1978 ولكن الاتفاقية ظلت علامة علي سلام غير متكافئ, سلام لا يزال يعطي لإسرائيل الحق في ممارسة جرائمها الوحشية علي الشعب الفلسطيني, وهي الجرائم التي تتكرر إلي اليوم وقد رأينا صلف نيتانياهو ورفضه حتي لاقتراح الرئيس الأمريكي الحالي باراك أوباما وقبل ذلك بسنوات عديدة, كان أمل يرفض السلام غير العادل, ويكتب ملحمته الشعرية الرائعة لا تصالح التي تبدو بعد كل هذه السنوات العديدة كما لو أنها لا تزال منطوية علي الصدق الجارح نفسه, ولذلك يبدو ما قاله للسادات سنة1978, كما لو كان يقوله لنا سنة.2011 لا تصالح إلي أن يعود الوجود لدورته الدائرة النجوم لميقاتها والطيور لأصواتها والرمال لذراتها والواقع أن صرخة لا تصالح تخترق فاصل الزمن لترن في أسماعنا الآن, مؤكدة أن المبدأ الذي لابد من تطبيقه علي الغاصب الخارجي وعلي الغاصب الداخلي في الوقت نفسه, فلا فارق جذريا بين الذين سرقوا الأرض العربية والذين سرقوا أرض الوطن ونهبوا ثرواته, وتركوا الشعب جائعا جاهلا خانعا بقوة وغطرسة أبانا الذي في المباحث وعيونه ولذلك لن يستغرب قارئ أمل, اليوم, أن شعره يعبر الزمان, ويصل إلينا, وتترجع أصداؤه في وعينا, فيبدو كما لو كان مكتوبا في زمن مبارك الذي كان امتدادا بشعا لزمن السادات, بل يبدو زمن السادات كما لو كان أكثر رحمة من زمن مبارك لكن من الذي يقرأ أمل دون أن يدهشه تطابقه علي ما عانيناه, ولا نزال نعاني استمراره أذكر, الآن, ما يستحق أن يقال للجماعات الدينية المتطرفة: لا تسألني إن كان القرآن مخلوقا أو أزلي بل سلني إن كان السلطان لصا أو نصف نبي وأذكر كلماته التي تقول الناس سواسية في الذل كأسنان المشط ينكسرون كأسنان المشط في لحية شيخ النفط وأذكر كلماته التي تبدو كما لو كانت موجهة لنا جميعا, واصفة ما آل إليه حال الوطن إنها الأرض التي ما وعد الله بها من خرجوا من صلبها وانغرسوا في تربها وانطرحوا في حبها, مستشهدين لقد رحل أمل دنقل منذ سنوات بعيدة, كما لو كان الله قد رحمه من أن يري أياما أفظع من أيام السادات, وتركنا نحن الذين أحببناه وعرفناه نحفظه في قلوبنا, ونعلم شعره لطلابنا ونتذاكره مع أصحابنا, ليظل في القلب دائما, وفي الصدارة من الذاكرة القومية والوطنية, ولذلك كانت فجيعتي كبيرة عندما قدم يسري فودة, في برنامجه, تحقيقا عن معرفة جماهير الشعب العادي بأمل دنقل وسمعت شابا يجيب أمل دنقل؟ أظنه شاعرا سوريا, ومواطنا آخر يقول أظن أنه شاعر من لبنان, وثالثا يراه من العراق, ورابعا لم يسمع عنه, لكن جاء خامس وقال أظنه شاعرا معاصرا للأبنودي وفاروق شوشة اعتصرني الألم وقلت هل هذا مصيرك يا أمل, بين أبناء شعبك الذي أفنيت شعلة إبداعك في نقل جمرة الحرية والتمرد إليه؟ ولكني سرعان ما رددت علي نفسي بأن الأمر طبيعي, ولم يقنعني كلام فاروق شوشة عن أن قصائد أمل لم يلحنها ويغنها مشاهير مثل عبد الوهاب وأم كلثوم والحق أن نسيان المواطن العادي له أمر عادي, فقد حرص إعلام السادات علي محوه من الذاكرة الإعلامية, وتبعه إعلام مبارك الذي كان يمضي في الطريق المناقض للقيم التي انطوي عليها شعر أمل وكان من الطبيعي أن لا تذكره الكتب المدرسية, ولا الصحف الكاذبة, ولا البرلمان الذي بيعت كراسيه, ولا العالم الذي صنعه الحزب الوطني, العالم الذي ساده جنون التسلط والقمع, فصح عليه ما ورد في سفر التكوين: أصبح العقل مغتربا يتسول, يقذفه صبية بالحجارة, يوقفه الجند عند الحدود, وتسحب منه الحكومات جنسية الوطني وتدرجه في قوائم من يكرهون الوطن ولكن, الآن, وقد تغير الزمان, وقامت ثورة25 يناير التي أرهص بها شعر أمل دنقل أكثر من أي شاعر آخر, فقد حان الوقت لإعادة الاعتبار إلي شعر أمل والبداية هي أن تعيد نشره صحف المعارضة, والصحافة التي أصبحت وطنية لا حكومية, وتضعه وزارة التعليم في مقرراتها, ويعيد التليفزيون الرسمي الحلقة التي تحدث فيها أمل في برنامج فاروق شوشة إن شعر أمل دنقل ميراث ثوري رائع, وإبداع عظيم بكل معني الكلمة, فهو شعر ظل وصاحبه منحازين إلي الجماهير العريضة التي أعادت صياغة ملامح وجه الوطن وعلينا أن نعيد الاعتبار للشاعر الذي لاذ بجبل لا يموت, اسمه الشعب, ورفض الفرار, وأبي النزوح, ومات في الأرض التي أحبها, مرددا مملكتي ليست من هذا العالم, فقد كان يري من وراء الغيب, ويعرف أن عالمه يبدأ من الخامس والعشرين من يناير.2011 المزيد من مقالات جابر عصفور