كلمة كريهة في حد ذاتها, وهي مشحونة بإيحاءات تستدعي رفضها المبدئي من أول وهلة. وأظن أن هذا هو رد فعل الإنسان السوي كلما ذكرت حركة التمرد علي رئيس مصر المنتخب. ولهذا أكاد أقطع أن من اختاروا توظيف هذه الكلمة في الصراع السياسي جانبهم التوفيق.تستدعي كلمة التمرد لذاكرتي الإعلامية والسياسية قصة قرار السادات طبع ونشر كتاب ألفه الإرهابي الصهيوني مناجم بيجن, إبان اتفاقية كامب ديفيد. الكتاب كان بعنوان التمرد. دعوني أستعرض أولا حكاية السادات وكتاب بيجن التي عشتها شابا, ثم أختتم هذا المقال بسطور عن حركة التمرد التي نعيشها هذه الأيام: بعد أسابيع مما سميت مبادرة السلام, وأثناء عملية التهالك الساداتي علي إنجاحها بأي ثمن وبكل الحيل والطرق, شاء القدر أن أعمل في جهة إعلامية سخرها السادات لتمرير تلك المبادرة علي الشعب. وكانت أول تكليفاتي هي ما تحكيه المقابلة التالية التي حدثت في مكتب الرقيب العام: المدير لكاتب هذه السطور: خذ بروفة هذا الكتاب اقرأها بتأن واكتب تقريرا عن المحتوي. أريد التقرير في أسرع وقت. يمكنك أخذ البروفة إلي بيتك. جلست إلي مكتبي.. وقرأت العنوان مرة بعد مرة مصدوما: التمرد تأليف مناحم بيجن, وكلما أوغلت في صفحات الكتاب أشتاط غضبا. من كلمات المجرم بيجن قائد عصابة الأرجون الأكثر دموية أثناء عمليات احتلال فلسطين: أنتم الإسرائيليون يجب ألا تأخذكم شفقة أو رحمة عندما تقتلون عدوكم.. يجب أن تقضوا عليه حتي ندمر ما يسمي بحضارة العرب التي سنشيد علي أنقاضها حضارتنا اليهودية.. إن الأساليب الإرهابية قد أشبعت رغبة جارفة مكبوتة لدي اليهود.. لن يكون هناك سلام لشعب إسرائيل ولا في أرض إسرائيل, ولن يكون سلام للغرب أيضا ما دمنا لم نحرر وطننا بأكمله حتي لو وقعنا مع العرب معاهدة صلح.. وقد انتهيت من قراءتي الفاحصة للكتاب, وكتبت تقريرا برفض نشره. وفي الصباح التالي قدمته إلي مديري, وكان هو المسئول الأول عن رقابة الصحف, والكتب والمطبوعات الداخلية والخارجية, والإعلام المسموع والمرئي. مازلت أتذكر تفاصيل النقاش الذي دار بيني وبينه, وقد سجلته في أوراقي التي أنقل منها السطور التالية: ح: أرجو أن تتكرم مشكورا بقراءة تقريري عن كتاب الملعون بيجن, صدقني يا فندم إنني لم أنم ليلة أمس من هول ما قرأت. أنا لا أصدق أن الدولة المصرية تفكر مجرد التفكير في نشر هذا الكتاب. المدير: لماذا.. ما المشكلة فيما قرأته؟ ح: إنه كتاب يمجد فيه الملعون بيجن جرائمه وجرائم عصابته الأرجون وباقي العصابات الصهيونية ضد فلسطين والفلسطينيين. اسمح لي أسمعك بعض الفقرات...( التي أشرت إليها أعلاه). وأردفت قائلا بحدة لا إرادية: إن نشر الدولة المصرية هذا الكتاب يعني الإقرار والموافقة الصريحة علي أفعال بيجن وعصابته. واختتمت: ماذا يستفيد القارئ من هذا؟ أتصور أن العكس هو المطلوب أي أن يتناول بيجن بالفضح والنقد والإدانة, ويجب أن تنشر الدولة عدة كتب تتناول تاريخه الدموي في فلسطين. إن ذلك يمكن أن يفيد المفاوض بل يفيد الرئيس السادات نفسه أثناء تفاوضه مع بيجن وعصابته. المدير: هدئ من روعك لا عليك أنت قرأت ووصيت في تقريرك, ونحن سنجهز التقرير النهائي, ثم ينتهي دورنا كرقابة. رددت مغاضبا: إن المجرم بيجن يرتدي ثياب الوطنية ويصف احتلال العصابات اليهودية فلسطين بأنه تحقيق استقلال دولة إسرائيل! وقال: عليك أن تفهم أننا هنا لسنا صناع قرار, نحن جهاز فني خادم لصناع القرار. الإعلام كله في العالم الثالث خادم لصناع القرار, يا ابني لا تنس هذه الحقيقة منذ هذه الأيام الأولي التي تضع فيها أقدامك علي طريق العمل. ح: لا اتفق مع رأيك يا فندم, الإعلام يجب ألا يكون مطية وخادما للسياسي. الإعلامي الواعي يجب أن يعتبر نفسه شريكا لصانع القرار. قد تقول حضرتك إن السياسي صانع القرار منتخب من الجماهير. أنا أعتبر الإعلامي الناجح منتخبا أيضا, لكن من القراء أو المشاهدين أو المستمعين. إن الإعلامي الذي يغش المتلقين أو يضللهم لحساب السياسي لن يحظي بأي احترام. المدير: لا تنس أنك في بداية الطريق وأنك تعيش في العالم الثالث. ولا تصدق أن بلادنا تعيش في حرية كما يزعم حكامها. ها أنت تعمل في جهاز الرقابة في حين يدعي رئيس الدولة أنه ألغاها. من تلك اللحظة عقدت العزم ألا أكون خادما في إعلام التضليل. وفي اليوم التالي استدعاني المدير. توقعت أنه سيناقشني مرة أخري في تقريري عن كتاب بيجن. كانت المفاجأة خبرا وقع علي وقع الصدمة. قال لي المدير: تقريرك عن الكتاب منطقي وأنا متفق معك فيه, لكن الرئيس السادات قرر شخصيا نشره.. الهيئة العامة للكتاب بدأت الطبع اليوم. وأضاف: اتصل بي اليوم الدكتور محمود الشنيطي مدير الهيئة وأبلغني بذلك. سأحجز لك نسخة هدية من المجموعة التي ستصلنا منه. ختاما.. أعود لما بدأت به لأقول لمن يتمردون ويشاغبون ضد رئيسنا المنتخب وحزبه وفكره السياسي: اتقوا الله وتذكروا أن التمرد علي أي قيادة شرعية أمر كريه بالضرورة وبالفطرة السياسية. أنتم تستعيضون بلفظ التمرد عن سراب سميتموه سابقا الثورة الثانية. لقد فشلتم في إقناع الناس بالالتفاف حولكم. ابحثوا لكم عن كلمة أفضل من التمرد. لمزيد من مقالات حازم غراب