يحتفل بعض الإخوة هذه الأيام باتفاقية كامب ديفيد بوصفها اتفاقية العار، والله يا سادة هي اتفاقية العظمة والفخار، مشكلتكم الحقيقية يا سادة ،هي أنكم لا تجيدون مهنتكم أو أي مهنة أخري، هذه هي مشكلتكم وعليكم أن تجدوا لها حلا.. وإلي أن يحدث ذلك أعيد نشر هذه القطعة لأذكركم بعظمة السادات. كان من الطبيعي بعد مباحثات السادات مع بيجن في القدس أن يرد له الزيارة فكان اللقاء الثاني في مدينة الاسماعيلية، لا أحد يعرف ما دار في هذا اللقاء وحتي الآن لم يظهر له محضر مكتوب غير أنه من الممكن معرفة ماذا طرح فيه بيجن من أفكار. إنها بالطبع نفس الأفكار التي طرحها في المؤتمر الصحفي بعد اللقاء مباشرة وكان ما قاله يمثل انتكاسة مروعة للمبادرة، أفسد الرجل مبادرة السادات أو لعله كان يظن ذلك، أعتقد أن السادات أدرك في تلك اللحظة أن الرجل ليس زعيما تاريخيا قادرا علي فهم معطيات هذه اللحظة التاريخية بل هو رجل سياسة يريد أن يأكل لحم البقرة وأن يشرب حليبها في الوقت نفسه، يريد السلام لشعبه وأيضا لايريد الانسحاب كلية من صحراء كانت صحراء حتي ذلك الوقت سيناء. بعد اللقاء غادر السادات الاسماعيلية طار إلي أسوان، كانت رسالته واضحة لكل الأطراف في العالم كله.. حسنا يا سادة لقد فعلت أقصي ما يستطيعه بشر وهذا هو رد رئيس وزراء إسرائيل.. ليس أمامي سوي أن أتنحي.. ولتنتظر هذه المنطقة عدة مئات أخري من السنين إلي أن يأتي من يريد السلام ويعمل علي تحقيقه.. يبدو أنه لابد أن تتفجر هذه المنطقة وتتحول إلي خرابة قبل أن يفكر الناس في السلام.. السلام عليكم. هذا هو بالضبط ما فكر فيه الرئيس كارتر، أدرك أن موقف بيجن يمثل انتكاسة وخيانة لآمال السلام، فأسرع علي الفور إلي أسوان لمقابلة السادات ثم ألقي بيانا قصيرا من عدة سطور قرأها من ورقة، لابد من مواصلة التفاوض، في أمريكا هذه المرة.. في كامب ديفيد، هكذا ظهر إلي الوجود نوع جديد من الدبلوماسية يمكن أن نسميها " دبلوماسية الاحتجاز" كل الكتب عن مباحثات كامب ديفيد تكاد تكون كتابا واحداً فالوفدان كانا يوجدان دائما في مكان واحد، والأحداث تمر تحت نظر الجميع، غير أن هناك مباحثات كانت تجري بين ثلاثة أشخاص فقط هم كارتر والسادات وبيجن، ومن حسن حظي أنا شخصيا أن كارتر كتب تفاصيلها في كتابه " دم إبراهيم" فقد فوجئت بالسادات في مواجهة بيجن وفي حضور السادات وقد تفجرت موهبته الدرامية في إدارة الحوار بينه وبين خصمه بطريقة جردت بيجن من كل حججه بالرغم من قوة بعضها. كان السادات علي وعي بأن البعد الأخلاقي عند كارتر هو أهم الأبعاد التي يجب أن يستند إليها في هذه الجلسات، بيجن أيضا كانت لديه حججه القوية وإن كانت لا تؤدي إلي سلام، فعند الحديث عن دولة فلسطينية أو عن الحكم الذاتي للفلسطينيين كان يصيح: أنا لم أحصل منك علي الضفة.. لقد استوليت عليها من الأردنيين.. يجب أن يتفاوضوا معي لاستعادتها... ثم ماهي حكاية الدولة الفلسطينية التي تتكلم عنها.. الأرض كانت معكم من سنة 48 حتي 1967 مافكرتوش تعملوها دولة ليه؟ حضرتك تكلمني عن أرضك.. عن سيناء.. وهنا يرد السادات: لا.. أنا لست هنا للتفاوض بشأن سيناء.. سينا أنا خدتها خلاص.. حصلت عليها كاملة في اللحظة التي وصلت فيها إلي القدس.. المطلوب من حضرتك دلوقت إنك تنسحب منها أنت وقواتك ومستوطناتك.. ويصرخ بيجن: لو أن الأمر متوقف علي موافقتي أنا شخصيا، لوافقت علي الفور.. ولكن هذه المسألة في يد الكنيست وليست من صلاحياتي.. وهنا يمسك كارتر بقلم رصاص ويكسره بعصبية وهو يقول: يتعين عليك أن توافق يا سيدي الرئيس علي ما يطلبه منك السادات. وهنا يبدأ بيجن واحدة من محاضراته الشهيرة، لم يعد شعبي يتلقي الأوامر أو التهديدات من أحد...و... و.. إلخ.. مرة أخري يكسر كارتر قلم رصاص آخر ويقول له في صرامة: يتعين عليك أن توافق يا سيدي الرئيس.. فيصيح بيجن: قلت لك، أنا شخصيا موافق.. ليست لدي مشكلة في ذلك.. ولكن هذا الأمر من صلاحيات الكنيست وليس من صلاحياتي... في هذه اللحظة يتقدم الفلاح المنوفي ليجهز علي المثقف الثوري البولندي. من خبرته الطويلة في العمل مع المثقفين الثوريين كان يعرف متي يكذبون ومتي يستفيد من أكاذيبهم، من المستحيل أن يكون بيجن موافقا علي ذلك، غير أنه بإعلانه موافقته شخصيا أمام كارتر، فعلي السادات أن يمسك به من لسانه، وعلي الفور يقول السادات: الحمد لله.. اتحلت.. وجدنا الحل.. حضرتك بتقول إنك موافق.. بيجن: موافق طبعا ولكن.. السادات: عارف.. عارف والله.. ولكن الحكاية مش في إيدك.. في إيد الكنيست.. بيجن: طبعا... السادات: خلاص... هي دي الاتفاقية بتاعتنا...حضرتك موافق علي الانسحاب كلية من سيناء بشرط الكنيست يوافق...يبقي خلاص.. دي مش اتفاقية سلام نهائية.. دي إطار لاتفاقية السلام اللي حانعملها بعدين... بعد ما يوافق الكنيست ومجلس الشعب المصري... إذا ما وافقوش.. تعتبر هذه الاتفاقية لاغية...إيه رأيك؟ اسقط في يد بيجن، وقال كارتر بهدوء: يتعين عليك أن توافق يا سيدي الرئيس. هكذا تمت اتفاقية كامب ديفيد ووقعتها الأطراف في حديقة البيت الأبيض، واقيمت الأفراح في العالم كله، اتضح أن السلام بين الشعوب المتحاربة أمر ممكن، ولكن كل هذه الأفراح، تعتبر لاغية إذا لم يوافق الكنيست.. كانت هذه عبقرية السادات... أن ينصب الفرح في العالم كله.. فرح السلام.. ثم يقف هو علي تبة عالية ويصيح: فرح السلام أهو، وصلنا إليه بعد أن أريقت دماء مئات الألوف من البشر... حد عاوز يهد الفرح ده؟.... مين عاوز يهده؟... اللي عاوز يهده يتفضل يقول...