يصغر الدين إذا صغر رجاله (حسن البنا) ( 1 ) تجربة حركة التحرر الوطني الفلسطيني.. هي تجربة فريدة بين شقيقاتها في حركات التحرر الوطني العالمية..، لقد نجح المشروع الاستعماري الصهيوني.. العدو المركزي للقضية الوطنية القُطرية الفلسطينية والقضية القومية العربية في الوصول -عبر الدعاية المكثفة- للعقل الغربي ..، بأنه الامتداد الطبيعي للاستعمار العالمي في المنطقة الشرق أوسطية، وبأنه يمثل العودة لأرض الميعاد التوراتية في هارمجدّون ومجيء المسيح المُنتظَر الذي سيعيد اليهود إلى الديانة المسيحية / التي كفروا بها ..، وخدمت الظروف الدولية المشروع الاستعماري الصهيوني قبل وما بين الحربين العالميتين [في القرن الماضي] ، خاصة إبان الحرب العالمية الثانية .. حيث مارست النازية الألمانية وغيرها ممارساتها العنصرية العرقية فقتلت عشرات الملايين من أبناء الأمم والتجمعات البشرية الأوروبية، فعلى سبيل المثال بلغ عدد قتلى النازيين من أتباع المذهب الأرثوذكسي المسيحي أكثر من خمسين مليونا.. وقتلت المرضى والمشوهين والغجر والأقزام والشيوعيين ومن أتباع الدين اليهودي فيما أطلق عليه "المحرقة الهولوكوست"، وبلغ عدد قتلى اليهود من هذه الملايين (القتلى) حسب الرواية المدونة في مبنى "المحرقة" في برلين حوالي أربعة ملايين ونصف المليون.
( 2 ) استغل الصهاينة هذه المأساة المقززة على أيدي النازيين واستثمروها أيما استثمار، لقد تَغَوّلوا في استغلالهم هذا واستثمارهم وتوظيفهم هذه المسألة العنصرية.. على حساب الأمة العربية عامة والشعب الفلسطينية خاصة .. في جلب عشرات بل مئات الألوف من الموسويين إلى أرض فلسطين.. بعد أن أغلق أهل الحضارة الغربية (الأوروبية والأمريكية) أثناء الحكم النازي أي إبان "المحرقة"، أغلقوا حدود بلادهم في وجوههم (اليهود) ..، وبعد أن رفضت الزعامة الصهيونية قبل وأثناء وبعد الحرب العالمية الثانية تقديم أدنى المساعدات لمن رَغِب وأراد من اليهود أن يتوجه إلى أي قطر خارج أوربا.. بل وفضلت الصمت في أحسن الظروف عندما أمر هتلر بإرسالهم للمعتقلات النازية في "أوشفتس" و"داخاو" وغيرهما.. حيث لقي الآلاف بل وعشرات الآلاف حتفهم.. أمام إصرار الزعامة الصهيونية على جلبهم إلى فلسطين وإلا فليواجهوا معسكرات الإبادة النازية.
( 3 ) كيان المشروع الاستعماري الصهيوني هو صنيعة المسيحية الصهيونية / حاملة راية المدونات التوراتية كذبا خدمة للاستعمار البريطاني أولاً، وللاستعمار العالمي ثانيا..، وأخيرا خدمة لفكرة المشروع الصهيوني القائم على التحرر من اضطهاد الحضارة الغربية على مدار القرون الماضية، وأن يكونوا ويشكلوا رأس الجسر الاستعماري في الشرق، هذا من زاوية، ومن زاوية ثانية انه صنيعة الجهل واللا وعي والفرقة العربية الرسمية، وأما الزاوية الثالثة وهي الأهم كونه (Hitler Hand Made صناعة يد هتلر). لقد كان الصهاينة أذكياء واستغلوا خطايا هتلر وجرائمه في "الهولوكوست" وجندوها لصالحهم.. وهذه لعبتهم المحببة.. تجنيد أخطاء الآخرين ما أمكنهم لذلك سبيلاً.. ونجحوا في لعبتهم السياسية مع النازية أيما نجاح..، ودفعنا الثمن.. أرضنا وديارنا وتفاعل شعبنا أفقيا وعموديا مع المعطيات الثقافية والاجتماعية والإنسانية والسياسية والحضارية في قطرنا العربي الفلسطيني.. وانتشى عَدونا الأجنبي الغازي وهو يمارس اجتثاث وجودنا الوطني وإلغاء تفاعل مجتمعنا.. بل وقذفنا خارج الحدود المُرَّسَمَة بفوهات بنادقه.. بما سُمي الطرد الجماعي "الترانسفير"، إن المخطط الصهيوني كان يتمنى أمرا آخر في أعماق نفسيات وذوات زعامته، كم تمنى لو استطاع ارتكاب جرائم "الهولوكوست" ضد شعبنا الفلسطيني.. ولكن ضجة العالم ضد ممارسات هتلر كما هللّوا وكبّروا لها في أجهزة دعاياتهم المختلفة والمختلقة.. كانت طازجة في العقل البشري بعد نكبة عام 1948، قد منعتهم من ممارستها ضد شعبنا العربي الفلسطيني مسيحيين ومسلمين وكذا بعض اليهود مما عارضوهم في سياسة التقتيل الفاشية والطرد اللا إنساني، هنا تم شطبنا سياسيا لمرحلة.. أرادها الصهاينة أبدية، ومن هنا تأتي أهمية المعاودة السياسية ومن فوهة بندقية علاها الصدأ في عمليات الكفاح المسلح منذ [الأول من يناير كانون ثاني / 1965] .
( 4 ) عُدنا والعَوْدُ أحمد.. كما يقول العرب القدماء..، عُدنا ونحن نعلن للعالم ونَزُّف للعروبة من الخليج إلى المحيط .. "أن اللقاء في أرض المعركة"، "البنادق كل البنادق في اتجاه العدو أو في صدر العدو"، وإن كنا ندعو إلى السلام إلا أن الكفاح المسلح هو استراتيجية التحرير وليس تكتيكها، ومضينا عمليا ونظريا في هذا السياق، وعَبَرَنا الآفاق ونجحنا في نقل قضيتنا الوطنية -النقلة الثورية التي تليق بها وتليق بعظمة عطاء شعبنا وعظمة انتمائه لأمته العربية، والإنسانية المناضلة الثائرة، لقد نقلنا في تلك الآونة قضيتنا الإنسانية المحضة التي تناقش عند مناقشة ميزانية (الأونروا) ونقلنا قضيتنا من أدراج وزارات الخارجية حيث علاها الغبار.. إلى ساحات النضال الميداني السياسي النابع من فوهة بندقية. وتألق فدائيونا في تضحياتهم وتعريض ذواتهم للخطر المحدق من كل حدب وصوب..، فمنذ الانطلاقة عام 1965 حتى نكبة حرب عام 1967، تلقى العدو الضربات في العمق من فدائيينا، حيث لم يكن يتوقعها آنذاك. ولكن إثر هزيمة عام 1967، اجتمعت قيادة "فتح" في [11 و12 /6/1967] وقررت / الاستمرار في الكفاح المسلح وأرسلت دوريات الاستطلاع الميدانية، وعادت تحمل النتائج، وقررت قيادة (حركة فتح) انتقال القيادة إلى الداخل وقاد "أبو عمار" دورية القيادة الأولى في عمق الأراضي المحتلة عام (1967)، وهكذا مارست "حركة فتح" ما سبق أن أعلنته (إن القيادة تنبع من خط النار) أولاً..، ومن ثم يكون التكامل مع هذه المقولة الفتحاوية الصادقة ثانيا. وتعملق نضال العمل الفدائي من دول الطوق في اتجاه الداخل وتتبع شعبنا وأمتنا وأحرار العالم أنباء الفدائيين..، ولم يخدشوا فحسب، بل أصابوا بعنف وقوة "أسطورة الجيش الذي لا يُقهر"، ولعلهم أصابوا منه مقتلاً نفسيا وجسديا (ما) في معركة الكرامة [21/3/1968] ، وفي دوريات العمق الارتكازية .. في الضفة والقطاع على السواء. وتأثر مشروعهم الصهيوني.. أيما تأثر، فهم لم يعتادوا "إقلاق راحتهم!" من بعض المتسللين ، فكيف وقد جاءهم الزلزال .. وما أدراك ما الزلزال، إنه الزلزال المصيري لوجودهم مهما طال الزمن .. جاءت حركة التحرير الوطني الفلسطينية .. جاء صاحب الحق التاريخي .. ليزأر بالرصاص والرشاش في وجه الغزاة الأجانب المحتلين .. (ها نحن هنا) لسنا لاجئين بل فدائيين .. وقيادتنا تتقدم الصفوف إننا طلاّب الحق لبناء الدولة الديمقراطية العلمانية.
( 5 ) وتعاظم شأن العمل الثوري .. وتناسب ذلك طرديا مع حجم المؤامرة ضد الثورة .. من الأمريكان وأغلبية الأوروبيين الرسميين ومسلسل مؤامرات من "الكم" و "الكيف" الذي لا نُحسد عليه من بيوت الحكم العربية ..، وكل هذا يمكن أن يكون مفهوما ولكنه ليس مقبولاً من أحد..، إلا أن "الذريعة" لتفجير المؤامرة العظمى ضد الدور الفلسطيني الثوري قد كمن في اللا انضباط من العناصر والكوادر، وعدم وجود القانون الثوري الصارم عندما تغلب اللملمة العاطفية على حسن الإعداد لانتزاع إنجاز أرقى. إن غياب أو عدم تفعيل القانون الثوري .. إنما هو الف / باء انهيار الإطار والمشروع والفكرة..، فالقانون الثوري أو أي قانون بلا أنياب سامة.. إنما هو حكاوي على القهاوي! . ليس عيبا أن يدرس الثائر عدوه.. بل وأن يُمعن في دراسته ما استطاع لذلك سبيلاً فهذا الأمر يوفر الجهد والعرق والآلام والمعاناة والدماء..، ولكن العيب ألا يستفيد الدارس من دراسته.
( 6 ) تفهم مهندس الكيان الصهيوني [دافيد بن غوريون] المعاني الظاهرة / البارزة والخفية لماهية القانون ولا بد من الوعي الكامل بأنه لا يهم . في المراحل الحرجة شديدة الانعطاف في المسيرة ماهية القانون المراد تطبيقه، المهم أن ينجح التطبيق فأصل العمل نتيجة، أي لا يهم في التطبيق العملي ميدانيا دلالات القانون المهم نتائج التطبيق على الأرض، نعم أصل العمل أي عمل .. نتيجته ، مع العلم أن القانون يخدم الطبقة التي تُقره وتُطَبقه. إن "بن غوريون" هذا .. قد اتخذ قرارات صعبة وقاسية، / على نفسه وعلى تاريخه، خدمة للفكرة العقائدية وإفرازاتها الثقافية والاجتماعية والسياسية الآنية والمستقبلية، تماشيا مع سياسة الكتاب الأبيض الصادر صيف عام (1939)، فقد منعت سلطات الانتداب نزول الركاب غير الشرعيين من المهاجرين الصهاينة إلى الشواطئ الفلسطينية، ووضح ذلك بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية في [1/9/1939]، ورفضت الزعامة الصهيونية ذلك وواصلت سياساتها القديمة وهكذا وصلت 3 سفن إلى السواحل الفلسطينية فجمعتها السلطات البريطانية في سفينتين وأمرت إحداها (باتريا) بالإبحار إلى الجزر البريطانية البعيدة، ورفضت الزعامة الصهيونية واجتمعت (الوكالة اليهودية والهاغناة) وقررتا في [نوفمبر تشرين ثاني / 1940] [منع السفينة (باتريا) من الإبحار ولو كلف الأمر إغراقها] وفعلاً تم نسفها وقُتل (267) مهاجرا صهيونيا، وكانت منظمة (الإتسل أي الأرغون) قد خططت نسف السفينة .. ولكن "الهاغناة" قد سبقتها. وفي خضم الحرب العالمية الثانية وصلت السفينة "ستروما" قادمة من رومانيا وعلى ظهرها (769) مهاجرا صهيونيا، إلى الشواطئ التركية.. التي رفضت نهائيا السماح برسوها على الشاطئ وإنزال ركابها متذرعا ربانها / بحجة العطب، إلا أن الحكومة التركية رفضت إنزالهم إلى شواطئها ما لم تتعهد الحكومة البريطانية باستعدادها لاستقبالهم، ولكن بريطانيا رفضت الطلب التركي، وفي [24/2/1942] تفجرت السفينة بأفكار وأوامر وأفعال وتنفيذ الزعامة الصهيونية وغرقت بركابها ونجا شخص واحد فقط.
( 7 ) ولعل القيادة الفلسطينية تعرف كل هذه الروايات وأكثر ..، وإن سفينة الأسلحة "التالينا"، ربما من أكثر ما تعرف قيادتنا عن تلك المرحلة من حرب عام 1948 ، أرسلت زعامة "الإتسل" عصابة "مناحيم بيجن" إلى فروعها خارج البلاد بتعليماتها لتشكيل فرقة عسكرية يهودية دولية (إصلاحية من أتباع أفكار زئيف جابوتنسكي)، لتصل إلى الشواطئ الفلسطينية في [15/مايو أيار / 1948] ، حيث (من شأن هذه القوة الإضافية في الظروف التي تجتازها البلاد، حسم المعركة مناحيم بيجن)، أرى أنه كان يرمي إلى الحسم ضد الهاجناه من جانب، وضد العرب من جانب آخر، ولكن بن غوريون كان منتبهاً لذلك. أبحرت السفينة واطلقوا عليها إسم (التالينا) وهو الإسم الأدبي لزئيف جابوتنسكي، [هكذا يحترم الأتباع والرفاق والاخوة القدامى زملاء النضال ولا يسعون كقيادتنا لسحقهم ما استطاعوا لذلك من نفوذ، أتحدى إذا كرمت قيادتنا مقاتلا أو مناضلا أو فدائيا أو أحدا من لابسي الكاكي منذ ستة سنوات.] ، أبحرت السفينة من ميناء مارسيليا في [11/يونيو حزيران/1948] وهي تحمل على ظهرها (913) مقاتلاً من مقاتلي (إتسل) ومعهم (5000 بندقية و250 مدفعا رشاشا و 5.000.000 طلقة و 5 مصفحات وكميات ضخمة من المواد المتفجرة). جرت محاولات لحل الإشكال الحاصل بين "الإتسل" و (وزارة الدفاع) وكان على رأسها بن غوريون..، وأصر بن غوريون على أن هناك جيشا واحدا ل"دولة إسرائيل" .. إنه "جيش الدفاع الإسرائيلي" ولا مكان لأي قوة عسكرية على التوازي معه .. مهما كلف الأمر من نتائج .. وأكد استعداده لتحمل أوزار هذه العملية .. ولكنه أفاض في شرح مكاسبها. أكد بن غوريون أن حمولة السفينة تعود ل"جيش الدفاع" ويجب أن يتسلمها بدون قيد ولا شرط ، وإلا ....،. ولكن بيجن حاول التسويف والمماطلة وكسب الوقت، وأمر بإنزال قوارب تحمل السلاح إلى الشاطئ فما كان من بن غوريون إلا أن أعطى أوامره لضرب السفينة على من فيها قبالة "تل أبيب" في [22/6/1948] وكان على متنها "مناحيم بيجن" الذي سارع بالهرب قبل إنفجارها وغرقت وقتل معظم من هم على ظهرها.
( 8 ) وواجه بن غوريون منتقديه بما عُرف عنه كزعيم تاريخي لصهيونيته .. بكل الحزم والحسم والقوة والحجة والمنطق متسلحا كما قال : بِ"الشرعية والقانون" ..، وأكد : "لو سقطت كميات الأسلحة بيد العصابة الإرهابية .. لأصبح الإرهابيون قادرين على اغتيال الدولة اليهودية وحرية الييشوف دفعة واحدة" ، وأضاف : "إنني أعتقد أن حرق هذه السفينة هو عمل عظيم، لأن هذه السفينة هي التي حملت بداخلها خطر دمار إسرائيل" .. ثم يصف المدفع الذي قصف "التالينا": "مبارك هو المدفع الذي قصف هذه السفينة ..".
( 9 ) أين بن غوريون فلسطين..، حقا نفتقده هذه الأيام، ولكن الأمهات الفلسطينيات.. من أشهر الوَلّادّات بين نساء الأرض، لهذا أُراهن وأُجزم سيأتي ولن يطول حضوره وتواجده وقيادته لشعبنا البطل. إن الذي أراد الحرص على سمعته الشخصية بطريقة خاطئة وبالتالي نتائج أكثر خطئا.. عليه أن يدفع لخالد مشعل وغير خالد مشعل الكثير من التنازلات ..، وهي ليست من جيبه الخاص الشخصي .. إنها من عطاء وفداء ودماء وتاريخ "فتح" والحركة الوطنية الفلسطينية. لم نستفد من تاريخ الأعداء..، ولا من تاريخ الأصدقاء..، ولا من تاريخ الأشقاء..، ولا من تاريخ الرفاق الزملاء..، على ما يبدو أن الكثير من قياداتنا لا تقرأ .. وإذا قرأت لا تفهم .. وإذا فهمت لا تمارس .. وإذا مارست تمارس خطئا.. وإذا أخطأت فإنها تخطئ بحق الأوفياء من الأبناء ولا تخطئ بحق وباطل الأدعياء. حقا من هذه النتيجة علينا أن نراجع مجمل قياداتنا التنظيمية والسياسية مراجعة كاملة، فإن نسبة من لا يستحق قيادة "3 نعجات بياض" في سهل وليس في وعر، ولكنه مطيع وكاتب تقارير، فإننا نجده على رأس السلم التنظيمي في الضفة بما فيها القدس والقطاع والشتات. ومن لديه القدرات التنظيمية من هذه القيادات فلا يسند لها ما تستحقه من مهام . نعم .. نعم .. ما أشبه الليلة بالبارحة.. فهل تتعظ قيادتنا (وهي مثل الهَم على قلب الفقير).. ولو بعد فوات الآوان.. أي وليغادروا لكي نقرأ مذكراتهم -لمن يحسن منهم الكتابة- قبل أن نسبقهم إلى اللّحد. _______________ * دردشة رقم (79) .. هذه دردشات بعضها قديم وبعضها جديد، وبعضها عليه تعليق ما / وآن أوان نشرها.