كانت الساعة تقترب من منتصف الليل.. وكنت ساعتها أمضي عطلة آخر الأسبوع في بيت العائلة الذي ورثناه عن الأجداد في القناطر الخيرية, وهو نفسه دوار عمدة دير الناحية في الزمن الخالي.. قلت لمن حمل إلي الخبر العجيب, وأنا أحاول أن أبعد عن عيني تباشير النعاس: لقد مضي وراح زمان الفرسان.. نحن الآن في زمان التوك توك والميكروباص! جاءني من خصاص الباب الخشبي الكبير صوته الأجش: قوام نسيتني ونسيت صحبتي.. ألم أنقذك بنصائحي وأحكامي أيام آخر حكامكم الظلمة الذي ثرتم عليه وخلعتموه.. ومن بعده جاءتكم غربان الفوضي تنوح من فوقكم ومعها انتشر في سمائكم بوم الفتن وخفافيش المطامع.. وثعابين الفرقة وحيات الشقاق والنفاق! قلت وأنا أفتح له خصاص الباب الكبير: الآن عرفتك.. أنت مولانا وسيدنا قراقوش العظيم.. أي ريح زاعقة ناعقة ماحقة أتت بك إلينا في هذه الساعة وهذه الأيام؟ قال وهو يدلف من ضلفة الباب بعوده الطويل وزعبوطه الأسود.. وسحنته الغبراء المكفهرة: جاءت بي إليكم من شهب الغيب وغمام التاريخ.. أفعالكم الغبراء ونوباكم الصفراء وفرقتكم وعراككم.. لم تراعوا دينا ولا شرفا ولا ميثاقا.. فرقتكم المطامع والمطامح والجري وراء المصالح.. وتاه من أقدامكم الطريق ومن عقولكم الصواب! قلت له وهو يكاد يعتصرني عصرا فرحا بلقائي بعد طول غياب: أنت لا تحضر إلينا.. إلا في أوقات المحن وعندما تهب علينا رياح النواكب؟ قال وهو يعطي حارس الدار زعبوطه وقلنسوته وصديريته الحديدية الثقيلة: أنتم أهلي وعشيرتي وأنا القائم.. أو قل كنت القائم بأعمال الحاكم من قبل السلطان العظيم والقائد المغوار صلاح الدين الأيوبي.. أيام أن كان في الشام ليحرر القدس من الأذناب والرعاع.. وقد حررها.. وحرر التراب العربي من إفك الفرنجة وظلم الصليبيين ورفع راية الإسلام خفاقة فوق بيت المقدس.. لتنزل في عهدكم وفي زمانكم الأغبر هذا! حمدت الله أنني وحدي هنا.. بعد أن سبقني أهل الدار إلي القاهرة التي أصابها مس من الجنون.. خذ عندك.. أولاد شوارع لا تعرف من أين أتوا, وشبيحة يحرقون الأخضر واليابس ويقذفون بالطوب وزجاجات المولوتوف الحارقة كل ما يجدونه في طريقهم.. ميدان+ فندق+ مستشفي+ مدرسة+ بيت ناس لا يعرفونهم+ محل لأكل العيش+ سيارة مركونة ولو حتي كانت سيارة شرطة أو مدرعة تابعة للأمن المركزي.. الكل عندهم سواء في الحرق والضرب والتكسير والتخريب.. ليه؟ ما حدش عارف.. من يمولهم؟ برضه محدش عارف.. أو عارف وساكت! .................. .................. راح عم شعبان حارس الدار يخلع عن عمنا قراقوش العظيم ملابسه الرثة.. وهو لا يعرف بالطبع أن هذا المارد الأسمر اللون.. كان حاكما علي مصر من قبل السلطان صلاح الدين قبل 834 سنة.. عندما توجه إلي بيت المقدس في فلسطين ليحررها من أيدي الصليبيين الذين جاءوا بجحافلهم وهيلمانهم وقضهم وقضيضهم بقيادة ريتشارد قلب الأسد ملك انجلترا.. وأطلق أهل مصر علي قراقوش الألقاب والنعوت.. وأصبح حكم أي حاكم ظالما في نظرهم ولا حكم قراقوش.. يعني لا أحد من الحكام والسلاطين يفوق حكم قراقوش ظلما وقسوة وفجرا برفع الفاء وتجبرا! احتضن عمنا قراقوش الحارس العجوز وطبطب علي ظهره حتي كاد يخلع له صفا من ضلوعه.. والرجل المسكين يتآوه في صمت.. ثم طلب منه أن يخرج إلي حيث ترك حصانه الأشهب ليأتي من فوق ظهره بلباس نومه.. ذهب عم شعبان العجوز وهو يلهث إلي خارج الدار.. وأتي علي عجل ومعه لباس نوم هذا الأفعوان الأغبر الذي حير الدنيا قبل أكثر من ثمانية قرون.. وجاء يحاورني ويداورني في آخر الزمان.. ................ ................ أعددت لمولانا قراقوش مجلسا عربيا.. وحشية يتكيء عليها وهو ممدد القدمين علي سجاد عثمانلي ورثته عن جدتي لأمي التركية الأصل والجدود.. وأعد له عم شعبان نارجيلة معتبرة.. وصينية تلمع بفناجين قهوة عربية ساخنة.. وقلت لنفسي: لقد جاء عمنا قراقوش في موعده تماما.. ربما يفيدنا وهو يحدثنا عن أحوالنا التي احترنا والله وغلب حمارنا برفع العين كما يقول العامة في تفسيرها.. مجرد تفسيرها.. وليس حلها.. قلت لعمنا قراقوش: لماذا كان العامة يطلقون علي حكم أي ظالم عبارة: ولا حكم قراقوش! قال بغضب: إنها فرية وبدعة غريمي الذي فضلني عليه السلطان البطل صلاح الدين الأيوبي وجعلني واليا علي مصر بدلا منه.. إنه صاحب كتاب: الفاشوش في حكم قراقوش.. الوزير الأسعد بن المهذب بن مينا أبي مليح.. وهو وزير قبطي شاطر في أعمال المال والتجارة وإدارة الأعمال.. ولأن السلطان استبعده واختارني لإدارة شئون مصر.. وهو مشغول بحملته علي الصليبيين في بيت المقدس وسائر مدن فلسطين.. حتي يأمن جانب أهل مصر.. وقد اشتهرت بالشدة في أحكامي ومعاملة كل مخطيء وكل خارج علي القانون والآداب والدين ومصلحة البلاد.. قلت لعمنا قراقوش: ماذا لو تجرأ أحدهم أو مجموعة من الأفراد.. وهاجموا مقر حكمك ورجموه بالطوب.. وأشعلوا النار في الأشجار التي تظلل المبني الذي تحكم مصر كلها من داخله؟ قال: يا خبر أسود ومهبب بطين البرك.. دول كانت سنتهم سودة.. نمسك بهم ونربطهم في ذيول الخيل ونسحلهم من دورهم حتي ساحة الأزهر الشريف ثم نعلقهم فوق سارية الميدان.. لكي تنبش لحمهم الصقور وتتعش الغربان والحدأة! .................. .................. قلت لمولانا قراقوش العظيم: وما قولك يا مولانا فيما يجري الآن علي الساحة.. مذيعات ومذيعون وصحفيون وصحفيات يشتمون بأقسي الشتائم رئيس البلاد بلا خوف.. ويهاجمونه في الرايحة والجاية.. بل ويتهكمون علي أعماله وكلامه وفلتات لسانه وهفوات تعليقاته.. عملا بحرية الرأي والرأي الآخر في البلاد الديمقراطية ومن بينها مصر مهد الثورة الميمونة؟ قال زاعقا واقفا علي قدميه بطوله الفارع: يا خبر أسود ومنيل.. سلطان البلاد ورئيسها يهان بهذه الطريقة باسم الديمقراطية.. والله كم فيك يا مصر من مضحكات.. ولكنه ضحك كالبكاء.. ولكني أريد أن أعرف منك بوصفك رئيس قلم كتاب مصر كما قالوا لي عنك قبل أن أجيبك: من هو الصحفي؟ ومن هو المذيع؟ قلت: الصحفي هو من يكتب في صحيفة توزع علي الناس كل صباح وفيها أخبار مصر والدنيا كلها.. والمذيع هو من يعمل في جهاز التليفزيون. فتحت له جهاز التليفزيون وقلت له: تري أمامك علي الشاشة الآن المذيع أو المذيعة وهما يتحدثان ويعلقان علي الأحداث التي تراها أمامك علي الهواء مباشرة ساعة حدوثها! قام من مقامه غير مصدق: هذا والله يا فتي الفتيان هو العجب العجاب.. الذي يحدث في زمانكم العجيب هذا كأنه يوم القيامة.. ولكن علي أي حال.. فمن يتهكم أو ينتقص من مقام رئيس بلد أو سلطانها أو ملكها علي الملأ.. بقصد التهكم وقلة القيمة.. فإن السياف مسرور أولي به.. هو يتولي أمره من قبل ومن بعد! قلت: يعني يقطع رقبته؟ قال: ويقطع رقبتها إذا كانت الجانية من جنس حواء! أسأله: دون محاكمة؟ يسألني في دهشة: أي محاكمة؟ وأي قاض تقف أمامه؟.. مادام المذنب بين أيدينا والجريمة قد شاهدها الجميع! أسأله: وأين يا سيدي حرية الرأي هنا؟ قال: لا حرية لمن يقصد الإهانة والتجريح.. ولا حرية لمن يقصد البذاءة والذم والشتيمة.. والوقيعة وزرع الفتن.. ومادامت الواقعة ثابتة.. فلا مجال لكثرة الكلام والسؤال واللت والعجن.. القصاص العادل والفوري.. يهدئ النفوس ويسحب فتيل الفتن.. ويمنع تكرار محاولة النيل من كرامة الرؤساء والكبار.. وعلماء الدين.. والقضاة والمعلمين والأطباء ومشرعي الأمم ومفكريها وفلاسفتها.. كل هؤلاء ممنوع الاقتراب منهم.. وإلا فالسيف أولي بهم ولا مناص هنا من أن يتدخل! قلت: يتدخل بماذا؟ قال: يتدخل بالبتر وقطع الرقاب! قلت: يا خبر أسود ومنيل.. بلاش والنبي حد يسمعك! يسألني: إيه حيحصل؟ قلت: تقوم الدنيا وما تقعدش.. يجيبولك بتوع حقوق الإنسان.. ومراقبي الأممالمتحدة.. ودعاة الديمقراطية ودول أكثر من الهم علي القلب يا عم قراقوش! .............. .............. عمنا قراقوش واقفا علي قدميه يلقي خطابه وأنا ساكت أسمع: الحاكم يا سيدي لا يسبه أحد ولا يسأله أحد لماذا يفعل كذا ولم يفعل كذا كما في زمانكم الأغبر.. ديمقراطيتكم هذه أفسدت الناس وعلا بسببها صوت الغوغاء.. هذا زمان البلطجية والشبيحة ومن يستبيح دم أخيه ظلما وعدوانا.. هذا زمان الفوضي الذي تعيشونه الآن.. اعلم يا هذا.. الحزم والعدل هما المطلوبان هنا! قلت لمولانا قراقوش العجيب: خزانتنا تشكو الإفلاس.. من أين تأتي لها بالأموال؟ قال: لقد حدث هذا في عهدي.. فقمت بفرض مكوس أو ضرائب جديدة كما تسمونها الآن! أسأله: زي إيه كده يا عمنا قراقوش؟ قال: كل رجل يتزوج يدفع لخزانة الدولة 100 دينار! أسأله: لماذا؟ قال: رسم أنه أصبح رجلا! أسأله: وإذا أنجب ولدا؟ قال: نعيد له 50 دينارا! أسأله: وإذا أنجب بنتا؟ قال: نعيد له المائة دينار لكي يحسن تربيتها! أسأله: وإذا لم ينجب أصلا؟ قال: نطلقه من زوجته ونزوجه بأخري! أسأله: والزوجة المطلقة ما ذنبها؟ قال: نزوجها رجلا آخر لعلها تنجب منه! أسأله: ولمن يريد أن يطلق امرأته؟ قال: الرجل الذي يريد أن يطلق امرأته ويهجرها بلا سبب.. يدفع 100 دينار لخزانة الدولة.. وإذا طلقها يدفع 100 دينار أخري.. ومن لا يقدر علي الدفع يعمل أجيرا في قصر الحاكم بواقع يوم عن كل دينار في رقبته! قلت: طيب ومن يضرب زوجته؟ قال: من يضرب زوجته عن حق تصرف له الدولة مكافأة قدرها عشرون دينارا! أسأله: ومن يضربها عن باطل! قال: له في شريعتي ثلاث مرات يضربها.. ودون سبب.. وفي الرابعة يدفع غرامة001 دينار! أسأله بمكر: طيب والزوجة المفترية النكدية؟ قال: يتركها زوجها دون طلاق.. مثل البيت الوقف حتي ينصلح حالها! أسأله: والتي تحمل سفاحا! قال: ننتظر حتي تضع مولودها وتأخذ الدولة الطفل لتربيه في إحدي دور التربية! أسأله: والأم التي حملت سفاحا؟ قال: ترجم حتي الموت! ................ ................ قبل أن يمضي سألته: ومن يعتدي علي حرية الجيش ويخطف جنديا أو يقتله؟ قال: الجيش خط أحمر.. لا أحد يقترب منه.. والجيش يأخذ ثأره بنفسه وبأيدي جنوده.. الجيش آخر قلاع الوطن.. ممنوع الاقتراب.. ممنوع الدخول.. ممنوع اللمس! تصفيق حاد لمولانا قراقوش..{ لمزيد من مقالات عزت السعدنى