وجدتنى بالمصادفة أشاهد هذا الفيلم "أجورا" ... لفت انتباهى هؤلاء الملتحون السائرون فى الطرقات، يمنحون الناس خبزاً، يغطى الدمع أعينهم من فرط الشعور بالسعادة بالقرب من الله... ظننت فى البداية أنهم مسلمين بسبب هيئتهم ولحاهم، فلم أكن أعرف أى فيلم هذا، إلى أن ظهرت عالمة الفلك والرياضيات الفيلسوفة "هيباتيا السكندرية"، تلك المرأة التى يعتبرونها أما روحية للعلوم الطبيعية الحديثة، فهنا أدركت أن هؤلاء من أتباع المسيح... واتضح أن هذا هو الفيلم الأسبانى "أجورا" الذى تدور أحداثه في العام 391 ميلادية وجرى تصوير مشاهد منه في مدينه مالطا حيث شيدت ديكورات تمثل مدينة الإسكندرية القديمة بفنارها الذى كان واحداً من عجائب الدنيا السبع ومكتبتها الشهيرة التى أحرقها الرومان... هذا الفيلم تم إنتاجه عام 2009، وأخرجه المخرج التشيلي الإسباني أليخاندرو آمينابار، والذي شارك في كتابته أيضاً مع الروائي ميتيو جيل، وقام ببطولة الفيلم راشيل وايز وماكس مينغيلا، جاء الفيلم ليتناول فترة القرن الرابع الميلادي ومدى التطرف الديني الذي عاشته المدينة، حين أصبحت المسيحية الدين الرسمي للإمبراطورية الرومانية، والذي شمل اقتحام المعابد الإغريقية والرومانية، واقتحام مكتبة الإسكندرية من قبل الجماعات المتطرفة ذات الهوس الديني كما أظهرها الفيلم، حيث قامت بهدم التماثيل وتحطيم الرموز الفنية وحرق الأبحاث العلمية والوثائق والخرائط بدعو انتمائها للتراث الوثني. كما صور الفيلم دعوات أحد الأساقفة بالإسكندرية ويدعى "سيرل" بضرورة التنكيل والفتك باليهود المقيمين في الإسكندرية ونهب ممتلكاتهم وقتلهم، كذلك دعوة ذلك الأسقف لمنع عمل النساء، وضرورة عودة المرأة وبقائها في المنزل وحظر عملها بالتدريس أو الفكر وعدم الاستماع إليها، بل والتحريض على قتل هيباتيا كونها وثنية وكونها "ساحرة" ابتكرت نظريات علمية تسعى إلى تضليل البشرية، ولأنها لا تؤمن بالديانة الجديدة، ولم يشفع لها كونها تدافع عن حق أي إنسان في الإيمان بما يشاء بما فيهم هؤلاء المسيحيين الذين كانوا مضطهدين من قبل... ما أثار انتباهى حقاً هى تلك السماحة والصبر والهوان التى بدا عليها هؤلاء المتدينين قبل أن يتمكنوا من السلطة، وكيف أنهم أول ما تبدى لهم خيط السيطرة انقلبوا إلى وحوش كاسرة استخدموا كافة وأقصى أشكال العنف للدفاع عن سماحة الدين ضد كل من خالفهم الرأى والمعتقد... لم يحدث ذلك فقط مع المسيحيين أو اليهود أو المسلمين بل حدث مع كل المستضعفين المقموعين من السلطة، راجع ماحدث فى روسيا بعد الثورة البلشفية... لقد بدا من أحداث الفيلم أن العنف والتطرف لا دين له، فبينما عمد اليهود والرومان إلى قتل السيد المسيح واضطهاد المسيحيين، عمد المسيحيون إلى اضطهاد اليهود ومن خالفهم فى المعتقد بعدما استتب لهم الأمر، وعمد الشيوعيون إلى الفعل ذاته، ثم عمد اليهود إلى نفس الفعل مع الفلسطينيين بعد أن احتلوا أراضيهم، فعلها أيضاً الكثير من حكام العالم ضد شعوبهم والرؤساء ضد مرؤوسيهم، ودعاة الليبرالية والديمقراطية الأمريكان الذين قتلوا آلاف المسلمين فى العراق وأفغانستان واماكن أخرى من العالم بدعوى الحرب ضد الإرهاب، وكأنما كلما ضعفت قدرة الإنسان على استيعاب الاختلاف كلما زادت درجة عنفه ورفضه للآخر خوفاً من أن ينهزم بعد أن لاح له الانتصار، فهل ينجو إسلاميو هذا العصر من نفس المصير وهذا السلوك البشرى المقيت؟... ما أثار انتباهى ايضاً أن الأسقف "سيرل"، أسقف الإسكندرية فى ذلك الوقت، خرج من الكتاب المقدس بآية تشير إلى ما يهاجمنا به الغرب من اغفال لحقوق المرأة ومنعها من العمل وكأن أول ما يخشاه المتطرف أفكار المرأة، وأن المرأة أول من يتعرض دوماً لآثار هذا العنف والتطرف والاضطهاد... ينتهي الفيلم بالقبض على هيباتيا وتجريدها من ملابسها استعدادا لحرقها في الساحة، رغم أن كتب التاريخ تذكر أن هيباتيا قتلت بوحشية وتم التمثيل بجثتها من تمزيق للجسد وحرق للأشلاء، ويصور الفيلم مشهد النهاية بقيام عبدها "دافوس" الذى أعتقته وهو يقوم بحضنها بقوة ليخنقها، مجنبا اياها مصيرها البشع المحتوم... النتيجة التى خرجت بها من مشاهدة هذا الفيلم هى، أنه رغم حرص المتطرفين على قتل هيباتيا لوأد أفكارها التى عارضت تطرفهم وسعت إلى تنوير البشرية ودعم الإنسانية، إلا أن العالم استمر، والعلم تطور، ليتم اكتشاف واثبات معظم نظرياتها العلمية، وتظل هى "هيبايتا" أم العلوم شهيدة الإنسانية، ويظل قتلتها رمزاً للتطرف على مر العصور... والأهم هو أن التاريخ يثبت لنا أن الكثيرات من "هيباتيا" من أمثال جان دارك وراشيل كورى وغيرهن، اللاتى لاقين ويلاقين وسوف يلاقين هذا المصير على أيدى التطرف البشرى، سيبقين دوماً شهيدات للإنسانية وسيبقين دوماً فى ذاكرتها ذلك أنهن كن ضحايا للتطرف ولكنهن أضأن العالم بإنسانيتهن السمحة وعقولهن المتفتحة، ومهما طال الزمن، وزاد التطرف ستظل المرأة هنا وهناك رمزاً للحرية والإنسانية والتنوير ولو كره المتطرفون... [email protected] لمزيد من مقالات أحمد محمود