حولت الرأسمالية الغربية العمل الواعي لإنتاج منتج مفيد إلي مجرد العمل مقابل أجر, مع تقسيمه لزيادة الإنتاجية. فتضاءلت أهمية العامل الفرد وقيمة دوره في العملية الإنتاجية لأنه ينتج جزءا لا فائدة منه بمفرده. وسبب هذا مشكلات اجتماعية جمة في الغرب. فمع التغير الدائم لمتطلبات الصناعة, وتخطيط الإنتاج والعمل بحسابات صماء لزيادة الأرباح, أصبح العامل معرضا لعدم العثور علي عمل يحتاج جهده وقدراته فظهرت البطالة في المجتمعات الرأسمالية. كانت البطالة لا تمثل مشكلة إنسانية في المجتمعات الزراعية, حيث يستوفي الجميع ضرورياتهم الشخصية من الأرض لكن لتركز الملكية في المجتمع الرأسمالي في أيدي قلة, بينما تعتمد الكثرة المكدسة في المدن لتحقيق اقتصاديات الإنتاج الصناعي علي العمل بأجر لتوفير احتياجاتهم, أصبحت البطالة في المجتمع الرأسمالي تعني العجز عن الوفاء بضروريات الحياة! ويعتبر الليبراليون البطالة ضرورية لتحفيز الاقتصاد الرأسمالي, وضبط الأجور لتجنب التضخم, وتحفيز العمال علي العمل أكثر براتب أقل لتجنب البطالة وكل المجتمعات الرأسمالية بها بطالة تتراوح ما بين3% و15% يسمونها نسبة البطالة الطبيعية! ويعتبرون حالة العمالة الكاملة هي تلك التي تؤدي لثبات الأسعار( حيث يتفاعل الاقتصاد مع انخفاض الطلب بخفض الإنتاج وخفض الأجور وتسريح العمالة) ليست الحالة التي يعمل فيها الجميع. برغم أن خفض الأجور وتسريح العمالة يؤدي لمزيد من خفض الطلب في دائرة مغلقة. والحل الليبرالي التقليدي هو إعادة تأهيل العمالة ودفعها للبحث عن عمل وخفض الضرائب ومنح تيسيرات للشركات, والتحفيز المستمر للاستهلاك بالتغيير الدائم والمجنون للأشكال والأذواق الذي يفرز تيارا مستمرا من المتبطلين غير القادرين علي مواكبة التغيير. ومع التطور التكنولوجي, زادت التكاليف الرأسمالية, وقلت العمالة المطلوبة, وواجهنا لأول مرة في تاريخ البشرية زيادة وتركزا في ثروة وأرباح نخب متناقصة, وزيادة في الطاقة الإنتاجية ونموا اقتصاديا متزايدا لا يحتاج لوظائف! أين خطوط الإنتاج القديمة المزدحمة بالعمال من الوحوش الآلية الحديثة دون بشر. ومع هجرة الصناعة الغربية لمناطق العمالة والخامات الأرخص, زادت البطالة وتآكلت الطبقة المتوسطة في الغرب, وخسرت أمريكا ثلث الوظائف الصناعية في القرن الحالي فقط وأصبحت الرأسمالية تحتاج للبشر كمستهلكين ولا تحتاجهم كعاملين وأصبح الغرب يعاني النظام اللاإنساني الذي ابتدعه ولهذا فالرأسمالية الغربية ليست( ولم تكن أبدا) حلا لمشكلة البطالة, بل كانت سببا لها. وتحتكر الحكومات إصدار النقود الورقية دون قيود من إيراداتها, وهي مسئولة عن توفير القدر المناسب منها في الاقتصاد لتيسير الإنتاج والتجارة وتجنب التضخم لو تمادت في الإنفاق, أو الانكماش والركود والبطالة لو أنفقت أقل مما يجب, ولمواجهة تعطل الطاقات واستيعاب رغبة المجتمع المتزايد في الادخار, وفي غياب الإنفاق الحكومي, وميل العامة والنخب المتخمة بالنقود لإنفاق نقود أقل مما تكسب, تنخفض المبيعات ويتراكم المخزون ويتقلص الطلب الكلي لأقل من مستوي التشغيل الكامل للعمالة, وترتفع معدلات البطالة القسرية, ما لم يقم العجز الحكومي بتعويضه. وخفض الأجور في حد ذاته لايخلص سوق العمل من البطالة, بل يفاقم المشكلة. فلكي يتم زيادة الإنتاج وبيع الناتج القومي الكلي وتجنب البطالة وتحقيق التوظيف الكامل, يتعين أن يكون الإنفاق الحكومي الصافي مساويا لمجموع نسب الزيادة السكانية ومعدل النمو الاقتصادي ونسبة الادخار. والتمويل والائتمان البنكي لايحلان المشكلة لأنهما اتجار في النقود بمقابل زمني( الفائدة) يمثل ضريبة علي العمل المنتج, تؤدي لقتله. والحكومة هي الجهة الوحيدة التي يمكنها ضخ النقود لحيز الوجود دون تكلفة أو اشتراط سداد, وتمكين الاقتصاد من العمل والقضاء علي البطالة, بشرط ضخها عند قاعدة السلم الاجتماعي بما يؤدي لزيادة الإنتاج وامتصاص العرض الزائد للوفاء بمتطلبات الشرائح الأفقر الأكثر حيوية للعمل والإنتاج, ولا تترسب في الحسابات البنكية للنخب المتخمة. إن الميزة الكبري لمصر أنها مجتمع شباب يتعطش للعمل وللوفاء باحتياجات كثيرة يمكنه إنتاجها محليا بتمويل محلي, وهو ما يجب أن يتوجه له الإنفاق الحكومي دون( بعبع) عجز الموازنة أو إتاوة الفائدة. إن السعي الممنهج لخفض العجز وتحقيق الفوائض في الميزانية الحكومية يؤدي للانكماش. والوضع الطبيعي في اقتصاد ينمو وأمة تتزايد وتدخر هو وجود عجز في الموازنة العامة. وعندما يعمل الاقتصاد دون طاقته الممكنة, وبأقل من التشغيل الكامل لأبناء المجتمع كله, يقل الإنتاج القومي ويحرم أبناءنا وأحفادنا والأجيال القادمة الاستثمارات الحقيقية والسلع والأصول التي يمكن إنتاجها لمصلحتهم لو قمنا بالانتفاع بمواردنا البشرية والطبيعية بشكل كامل ومثمر. إن فاقد الإنتاج وفاقد البنية التحتية والتكنولوجيا والمعرفة واضمحلال الثروة البشرية هو الثمن الحقيقي لسياسات ضبط عجز الموازنة في ظل نظام النقود المصدرة مركزيا, بما يسبب الأذي للحاضر والمستقبل لكن الحل الناجع للبطالة يتحقق بتطوير نظام نقدي عادل كانت حضارتنا تطبقه في أوجهها, لا يتم فيه الاتجار في النقود, بل استخدامها في الاتجار والتبادل فقط, ولا يجعل الائتمان والأموال حكرا علي النخب الثرية, وبناء اقتصاد أخلاقي وتكافلي يوفر الحد الأدني للكرامة الإنسانية, ولا يعاني تنافسية الرأسمالية الاستهلاكية المتوحشة التي تفترس الضعفاء, ويمكن أيضا من تفرغ البعض للعلوم والفنون الإنسانية الرفيعة التي لا تستهدف الغرائز ولا مكان لها في اقتصاد السوق, ولا غني عنها لمجتمع إنساني. لمزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم