كل أنواع الاقتصاد الحديث يتم التخطيط لها وطبيعة النخب المسيطرة تحدد نوع الاقتصاد والخيار المطروح هو إسناد تخطيط الاقتصاد للحكومة المنتخبة أو إسناده للقطاع البنكي المصدر للائتمان والمتحالف بطبيعته مع نخب رجال الأعمال والمملوك بدرجات متفاوتة ملكية خاصة وإسناده للقطاع البنكي يعني ترك الاقتصاد في يد مجموعة مصالح غير منتخبة قد لاتتطابق مصالحها مع المصلحة العامة, خصوصا في دولة نامية كمصر. ومع ازدياد حجم المؤسسات المالية في العصر الحديث وتمركزها في مراكز مثل نيويورك ولندن وباريس, تبين أن للتخطيط المالي والنقدي المركزي( الحر) كل عيوب التخطيط المركزي الحكومي وهو يميل لتفضيل الفوائد العاجلة والمصلحة الخاصة علي المصلحة العامة طويلة الأجل وهو لهذا يفضل تركيز نشاط الإقراض في أكبر مجالين هما مجال العقارات والأراضي والمرافق المخصخصة ومجال تكوين الاحتكارات الصناعية والتجارية, وهو يفضل الاحتكارات لسهولة التعامل مع نخب أقل عددا. وقبيل انتهاء الحرب العالمية الثانية عام1944, اجتمع ممثلو44 دولة من الحلفاء في بريتون وودز بالولايات المتحدةالأمريكية لوضع أسس النظام الاقتصادي المالي العالمي لمصلحة المنتصرين في فترة مابعد الحرب, وأنشأوا مؤسسات للإشراف علي تطبيق هذا النظام منها صندوق النقد. وكان إسهام الدول الضعيفة في وضع النظام انعكاسا لضعفها بما تسبب في معاناتها المتكررة من النظام الذي وضعه الأقوياء لمصلحتهم. وخير مثال لهذا هو أزمة ديون العالم الثالث في ثمانينات القرن الماضي التي وأدت التنميه فيه وأرغمته تحت ضغوط الصندوق علي تقليص دور الحكومات في رعاية وتنمية أوطانها, وعلي خصخصة المرافق والخدمات العامة والثروات القومية لمصلحة النخب المحلية والعالمية بتطبيق ماعرف بتوافق واشنطن. ولم نسمع أنه حدث تغير في توجه الصندوق ليصبح راعيا للعدالة الاجتماعية والتنمية المحلية, أو أنه اعترف بالدمار الذي سببه لكل الدول النامية التي اتبعت تعليماته طيلة تاريخه, أو أن وصفاته نجحت ولو مرة واحدة في تنمية أي دولة فقيرة, بل استنزف اقتصادها جميعا لمصلحة النخب المحلية والغربية. وتحويل الاقتصاد إلي اقتصاد ريعي يستلزم أولا التضييق علي حرية البنك المركزي في إصدار نقود غير مقترضة وغير محملة بالفوائد, فلا يبقي لتمويل التنمية سوي البنوك التجارية الخاصة والعامة التي يجري الضغط علي الحكومات لخصخصتها بحجة العلمية والتقدم ورفع الكفاءة ثم خصخصة الأصول والإنتاج والخدمات التي يتم تمويل الاستحواذ عليها بالقروض المحملة بالفوائد وعندها يتحول الاقتصاد تماما إلي اقتصاد مستنزف منتج للريع, تضخ ثروته وناتج عمله للخارج إما بواسطة البنوك الأجنبية أو تحويلات الشركات أو ألاعيب بورصة التداول. وهكذا يتم إعاقة البنك المركزي عن تسييل عجز الموازنة الحكومية بادعاء أن عجز الموازنة شيء ضار وأن قيام البنك المركزي بتسييل هذا العجز يسبب التضخم, بالرغم من أن هذا هو الدور الذي من أجله تم إنشاء البنوك المركزية, ولأن زيادة الثروة القومية والنمو وزيادة عدد السكان وزيادة المدخرات يستلزم زيادة الأصول النقدية والمحتوي النقدي للوفاء بحاجة المجتمع للتعامل والادخار.وهنا تضطر الحكومة لتغطية بنود خطتها وأنشطتها إما بالاقتراض من البنوك التجارية, مما يثقل أعباءها لخدمة هذه الديون وسدادها, أو تضطر إلي الشراكة مع القطاع الخاص الذي يقترض تمويله,بما يسبب التضخم ويعني أيضا خصخصة الأنشطة الحكومية الجديدة. وهذا كله يزيد الأعباء وتكلفة السلع والخدمات لعموم الناس, ويفرض علي الحكومة التقشف لخفض الإنفاق ولخدمة الديون وسدادها, ويخفض من النقود المتاحة للإنفاق والاستثمار, مما يؤدي لانكماش الاقتصاد ككل ويدخله في حلقة مفرغة تضطر الحكومة معه لخصخصة الممتلكات العامة القديمة, وهكذا يتحول الاقتصاد برمته إلي اقتصاد ريعي. وقد يفرض علي الحكومة أيضا باقة مكملة من الإجراءات التقشفية بحجة ضبط عجز الموازنة منها زيادة الضرائب وزيادة أسعار السلع بخفض الدعم بحجة ترشيده وتوصيله إلي مستحقيه, وبحجة الأسعار العالمية,وكل هذا لتدبير مايكفي لسداد القروض الجديدة, ومنع الحكومة من التخطيط المستقل وإبقاء الاقتصاد الوطني في القفص. والقضية هنا أننا بدلا من تسييل العجز الحكومي بالعملة المحلية, وضبط الأنشطة التي تستنزف أرصدة العملات الأجنبية, فإننا نقوم بخفض النقود المحلية المتداولة في الاقتصاد( بزيادة الضرائب ورفع الأسعار) بما يؤدي إلي الكساد. ونتيجة هذه السياسة العجيبة في كل الأحوال هي وضع قيود علي النمو الاقتصادي المحلي بدلا من تنشيطه بتسييل العجز الحكومي بواسطة البنك المركزي وتوجيه هذه السيولة إلي الأنشطة الإنتاجية. ونكون بهذا كمن يدخل طواعية في الصندوق. وعندما يتعامل رجال الأعمال معا, يكونون علي حذر; لأن كل طرف يعرف أن الآخر يسعي لمصلحته بما قد يفوت مصلحته هو أويضره. في حين أن المراقب للمفاوض المصري مع المؤسسات الدولية يخرج بانطباع أن هناك ثقة لايؤيدها دليل في أن توصياتهم( التي تستهدف مصلحتهم) تحتمها القوانين الصارمة لعلم الاقتصاد الدقيق كالكيمياء. بالرغم من نظم علم الاقتصاد منذ نشأته مصممة لتحقيق مصالح واضعيه واستلزم تحقيق هذا الاستسلام العجيب تلقين أجيال من الاقتصاديين بصورة تعطل لديهم ملكة التمحيص والنقد, وتجعلهم يقبلون توصيات واشتراطات المؤسسات المالية الغربية علي أنها علمية محايدة تستهدف الإصلاح. المزيد من مقالات د. صلاح عبد الكريم