هناك علاقة تبادلية بين المبدع والمتلقي فيما يتعلق بمصطلح' الخيال' وذلك في الأعمال الأدبية كالقصة القصيرة أو الرواية أو القصيدة أو المسرحية عند قراءتها وليس مشاهدتها. فالفن يقوم في أساسه علي خيال المبدع. وحتي لو إعتمد هذا المبدع في فنه علي الواقع أو ما يدور في الحياة فلا يمكن تصوير هذا في عمل فني دون أن يضفي عليه المبدع غلالة من خياله حتي يصبح في النهاية عملا فنيا. وبدون هذا الخيال لا يصبح هذا العمل إبداعا أصيلا وإنما يصبح مجرد تصوير فوتوغرافي للواقع ويتشابه مع غيره من الصور الفوتوغرافية. ويدخل إختيار الفنان لمادته وتشكيلها في عملية الخيال أو بمعني أصح يدخل الخيال في عملية الإختيار. وبإضافة المنطق الفني لهذا الإختيار الذي بني علي الخيال يخرج العمل الفني من الخاص إلي العام ويصبح قابلا للحدوث أو يكون هو محاكاة للواقع وليس الواقع نفسه. لعل ما نادي به الشاعر الإنجليزي الشهير وليم وردزورث في مقدمة ديوان..' الحكايات الغنائية خير مثال علي استخدام المبدع للخيال فقد أوضح في هذه المقدمة وقام بتطبيقه في هذا الديون بأن اختار موضوعات وألفاظ شعبية من الحياة الواقعية وأضفي عليها من خياله الشعري فأضحت أعمالا فنية محطما ما اصطلح عليه النقاد تحت مسمي' اللغة الشعرية', بأن هناك لغة للشعر تختلف تماما عن لغة الحياة. ولكن وردز ورث إستطاع عن طريق الخيال أن يحول الواقع الممجوج إلي خيال فني. وهذا هو ما قام به أيضا الشاعر بيرم التونسي بالنسبة لإستخدامه العامية في أشعاره وكذلك فعل صلاح جاهين وفؤاد حداد وسبقهم أحمد شوقي ولكن ليس كل من يكتب الشعر بالعامية شاعرا. أما الشاعر والناقد العظيم صمويل كوليردج فإنه خالف صديقة وردزورث حين قام بتحويل الخيال إلي واقع وذلك عن طريق دقة التفاصيل التي أعطت منطقا فنيا للعمل وتجلي ذلك في قصيدته الشهيرة' قصيدة الملاح القديم'. وهذا الأسلوب الفني هو الذي تسير عليه معظم الأفلام الأمريكية التي تتسم بالمبالغات خاصة في أفلام الحركة'Action' وفي أفلام' الخيال العلمي' التي يشاهدها المتفرج ويقتنع تماما بأن ما يشاهده حقيقة يمكن أن تحدث وذلك عن طريق التفاصيل الدقيقة التي تخلق المصداقية في العمل الذي يشاهده. وهذه التفاصيل هي خيال المبدع. ولا يقتصر الخيال علي المبدع فقط في العمل الفني بالتحديد بل إن المتلقي أو القارئ يملك هو الآخر خياله بالنسبة للعمل الذي يقرأه. ففي حين أن خيال المبدع هو البداية ويعتمد علي الوحي والإلهام من أي مصدر يكون خيال القارئ مبينا علي العمل الفني الذي أبدعه كاتب القصة أو الرواية أو القصيدة والمسرحية المقروءة قبل عرضه علي المسرح. وفي هذه الأنواع الأدبية التي تعتمد في توصيل أفكارها علي الكلمة المكتوبة يصعب في معظم الأحيان إلتقاء خيال المؤلف وخيال القارئ خاصة فيما يتعلق بالوصف الظاهري للشخصيات أو علي وجه التحديد بالنسبة لصورة الشخصية التي كانت صورتها متمثلة بكل وضوح في ذهن الكاتب وهو يجسدها في عمله حتي ولو أتقن رسم ملامحها. وربما يكون هذا هو السبب في فشل كثير من الأعمال الأدبية عندما تتحول إلي أفلام سينمائية روائية أو عندما نقرأ إحدي المسرحيات ثم نشاهدها في عمل مسرحي. كثيرا جدا ما يصيب الإحباط المرء بعد مشاهدة فيلم مأخوذ عن عمل أدبي معروف وذلك لأن المشاهد القارئ يقارن الفيلم السينمائي بالرواية التي كتبها الأديب وسمح له بأن يطلق العنان لخياله فيما يتعلق بالمكان والزمان والبطلة والبطل. وهذا لا يعني أن يتفق خيال القارئ المشاهد للفيلم مع غيره من الذين قرءوا نفس الرواية وهذا لا يعني أيضا أن العمل السينمائي ليس بالعمل المكتمل ولكنه لم يتفق للأسف مع خيال قارئ الرواية التي إعتمد عليها الفيلم وأعترف بأنني كنت واحدا من هؤلاء الناس. ويختلف ناقد الأدب عن القارئ العادي. فقد يحدد الناقد موقفه من العمل الأدبي وفقا للمادة التي يحتويها هذا العمل أي ما كتبه الأديب بالفعل وعندئذ يبدأ ممارسة النقد متجردا من كل الضغوط أو التأثيرات المسبقة أو تبعا لمذهبه الفني. أما القارئ العادي فإنه يختلف في موقفه عن الناقد حيث يكون له تذوقه الخاص وتصوره بالنسبة للعمل الفني. فهو بعد قراءته قد يجد نفسه يعيش في عالم مختلف عن العالم الذي يعيش فيه في الواقع حتي ولو كان العالم الذي يقرأه يتبع المذهب الواقعي. فالخيال هنا يلعب دوره أثناء القراءة وبعدها إذ يجد القارئ نفسه يتخيل الزمان والمكان ويتخيل الشخصيات التي يسقط عليها من نفسه. يجد القارئ نفسه وقد تحولت إلي نفس أخري. وهذا هو ما يقوله الناقد الإنجليزي الشهيرأ.إ ريتشاردز في كتابه' مبادئ النقد الأدبي' أن حالة القارئ لقصيدة الشعر أو أي عمل فني تختلف عن حالته قبل تلقيه لهذا العمل. يقول رامان سلون في كتابه' المرشد إلي النظرية الأدبية المعاصرة' الذي قام بترجمته ترجمة جذابة الدكتور جابر عصفور'' وبطبيعة الحال فإن النقد الأدبي يقدم شيئا ذا بال للقارئ إذا لم يكن هذا القارئ أصلا راغبا في تأمل الكيفية التي يقرأ بها, وإذا ظن قراء آخرون أن النظريات والمفاهيم لا تفعل شيئا سوي القضاء علي عفوية إستجاباتهم إلي الأعمال الأدبية, فإنهم يتناسون أن الخطاب' المعنوي' عن الأدب يعتمد إعتمادا لا واعيا علي التنظير الذي خلفته الأجيال السابقة. فحديثهم عن' الشعور' والخيال' و' العبقرية' و' الإخلاص' و' الواقع' حافل بالتنظير الجاف الذي ثبته الزمن وأصبح جزءا من لغة الإدراك العادي. وإذا أردنا أن نكون مغامرين مكتشفين في قراءتنا للأدب فإن علينا أن نكون مغامرين بالقدر نفسه في تفكيرنا عن الأدب' ويعطي هذا الكلام حرية أكبر للقارئ في إقترابه من النص الأدبي ويتفاعل معه كيفما يشاء بالحذف والأضافة في ذهنه أثناء القراءة وتبعا لما يمليه عليه خياله. ومهما كان الكاتب مبدعا في وصفه للشخصيات داخلها وخارجها فإنه لا يستطيع أبدا أن يحرم القارئ من أن ينشط خياله ويتصور هذه الشخصيات كما يحلو له أن يتصورها. بل يصل الأمر بالقارئ إلي أن يتخيل البطلة في إحدي الهوايات التي يقرأها علي أنها صديقة له أو قريبة أو زميلة أو فتاة أحبها أو إمرأة رأها صدفة وعلقت في ذهنه رغم أنه لم يقابلها إلا مرة واحدة. أو يكره إحدي الشخصيات ويتمثلها في أعدائه أو فيمن يكرههم من بني البشر. وقد يشطح الخيال بالقارئ بحيث يبتعد كثير في تصوره لما كتبه المؤلف. لمزيد من مقالات مصطفى محرم