أفرغت نفسي توا من قراءة رواية حارس التبغ للكاتب العراقي علي بدر، وأقول الكاتب العراقي هنا مؤكدا علي حرصي الشخصي أولا علي عراقيتنا وثانيا علي حالة الأدب العراقي المعاصر وما يعانيه من ضيق المساحة التي يتحرك فيها.. وخصوصا إشكالية كتابة رواية عراقية مدنية بيئتها المدينة وليس الريف كما يصفها ياسين النصير بمواصفات البناء الفني الحديث وقضية التسويق العالمية والعربية ، حيث وكل المنشغلين في حقول الأدب العراقي يقروّن تماما صعوبة استساغة الأدب العراقي عربيا ، كان معظمه لم ير النور والانتشار لقلة دور النشر المحلية ومحدودية تقنيات الطباعة الحديثة باستثناءاته القليلة ، ومن الاستثناء هو الكاتب علي بدر الذي استطاع أن يحصل علي جوائز وألقاب كثيرة وان يوضع ضمن قائمة الروائيين العرب الخمسة لكتاب الرواية العربية وفق استطلاعات الصحف والمواقع الالكترونية والمنشورة في الانترنيت مؤخرا وكذلك ترشيح روايته الأخيرة حارس التبغ لأهم جائزة عربية - البوكر- في حقل الرواية العربية والتي ترشح من دور النشر العربية .. أنهيت قراءة الرواية في هذه الأيام، وقد صاحب هذه القراءة قراءة ما كتبه العراقيون عن هذه الرواية .. الزميلان الكاتبان محمد مزيد و احمد الهاشم تحدثا في مقالتين منفصلتين في موقع الكتروني عن رواية حارس التبغ .. بين ذاما لها / محمد مزيد/ مستعرضا الهنات والأخطاء التاريخية التي لا يمكن لكاتب متمرس مثل بدر الوقوع فيها(( منذ السطور الأولي لرواية حارس التبغ للروائي الشاب علي بدر يحصل ما اعتقده بسوء الفهم بين الكاتب والقارئ، سوء الفهم من النوع الذي يربك المتلقي ويجعله بين خيارين أما أن يرمي بالرواية او يحاول مواصلة قراءتها مثلي مضطرا، لكي يفهم الأسباب التي جعلت رواية مثلها تتسلق إلي القائمة الطويلة للروايات المرشحة لجائزة البوكر العربية لهذا العام (( الترصد بذله غيري وبين مدافعا عن علي بدر كمؤلف احمد الهاشم وهو الذي يؤكد وقوع تلك الأخطاء بشيء من الفذلكة ((كان بعضا من تلك الاعتراضات، وليس كلها، قد راودني أنا الآخر. أقول "بعضا من الاعتراضات"، كي لا انتحل جهدا في الترصد بذله غيري.)) وعلينا تجاوزها والنظر الي موضوع حكايتها ، ذلك الموضوع المؤثر الذي وضع الرواية ضمن الروايات الست المرشحة الي ( البوكر) وهنا قبل التعرض الي بنية الرواية من الناحية الفنية كان واجبا علينا النظر بموضوعية الي ما توصل اليه الكاتبين العزيزين .. وهما إذ يقتربا في مقالتيهما للإعلان والتسويق عن ميلاد رواية عراقية ، ولم يتصديا بذائقة نقدية الي بني الرواية بعد أن أُفرغت الساحة العراقية النقدية من نقاد السرديات العراقية المعاصرة إلا ما ندر .. وبعد النظر الي حجج محمد مزيد الراصدة لما آلت إليه الرواية من ضعف في بنية الرواية وتواريخها المشوهة فعلي سبيل المثال لا الحصر كما يذكر مزيد يقول (( قُسمت الرواية الي ثلاثة أجزاء تعتمد علي محاكاة قصيدة الشاعر البرتغالي بيسوا، سنجدها تقع في تناص او اقتناص- سيان الأمر في كلا الحالتين لدي بدر - لرواية عراقية أخري تحمل عنوان " صورة يوسف " للروائي العراقي المعروف نجم والي والتي صدرت عام 2005 في بيروت وقد استفادت "صورة يوسف" من تضمين بلغ مستوي عال من الحرفية لتعدد الأصوات في القصيدة إياها ، فيما سنري عند بدر في " حارس التبغ " قد وقعت في تناقضات لا أول لها ولا آخر حيث يتصدي الكاتب الي استعراض حياة موسيقار عراقي اغتيل في شباط من العام 2006 ، ليضع أقنعة لهذا الموسيقار فيكون اسمه، كمال مدحت او يوسف سلمان او حيدر سلمان . ثم تنتهي الرواية، بطريقة بدت لنا إن الكاتب ينسي ما يسطره في الصفحات الأولي ليرسل معلومات مغلوطة عن مصائر أبطاله في صفحات تالية، ويمنح أسماء لشخصيات ينساها في أماكن أخري، فضلا عن إرباك واضح في المعلومات التاريخية مما احدث شرخا بنيانيا سنأتي اليه مفصلا، وسنري أحداثا مفتعلة غير مقنعة لا تحمل أية شروط فنية لازمة. ففي الصفحة 9 نقرأ في " الخامس من فبراير من العام 2006 وُجدت جثة الموسيقار كمال مدحت مرمية علي مقربة من جسر الجمهورية " ... ولكن الكاتب ينسي هذه المعلومة ليقول في الصفحة 23 "في الثالث ابريل من العام 2006 وجدت جثته مرمية قرب جسر الجمهورية " .. بل سنجد في الصفحة الواحدة أغلاطا في المعلومات لا يمكن أن يقع فيها حتي ابسط المبتدئين في الكتابة كقوله مثلا في صفحة 23 "في العشرين من شهر مارس (آذار) 2003 بدأت الولاياتالمتحدة حرب الخليج الثالثة لإسقاط الرئيس العراقي صدام حسين " وبعد سطر واحد يرجع بالتاريخ الي الوراء ليقول " وفي التاسع من آذار (مارس) دخلت القوات الأمريكية مدينة بغداد)). وقد أجهد نفسه محمد مزيد في التربص للتواريخ المغلوطة ولم يتطرق الي بنية الرواية إلا بسطور قليلة جدا ، ولا اخفي سرا إن الكثير من الأدباء والإعلاميين العرب قد أعجبوا بهذه الرواية وكان صداها عاليا ومتفوقا علي كل نتاجات بدر في مجال الرواية العراقية المعاصرة ، كذلك كانت هذه الرواية والحقيقة لا تخفي أول رواية عراقية تتناول أحداث العراق الحالية بعد 9 /4 / 2003 بهذا المستوي وبتلك الجرأة المعهودة له ، رغم ما جاء به مزيد من مراقبات ذكية وصارمة لكل صفحة في متن الرواية ، حيث تحدث علي بدر عن فترات مهمة من تاريخ العراق يمتد من الثلاثينات وحتي الوقت الحالي، وذلك طبعا يحسب الي علي بدر وليس ضده والذي أغفله مزيد دون عمد كما اعتقد .. وفيما يؤكد احمد الهاشم علي الجوانب الايجابية من روايات علي بدر وبالأخص روايته حارس التبغ إذ يقول ((قدم الكاتب محمد مزيد علي جملة اعتراضات، في معرض تناوله لرواية علي بدر "حارس التبغ". كان بعضا من تلك الاعتراضات، وليس كلها، قد راودني أنا الآخر. أقول "بعضا من الاعتراضات"، كي لا انتحل جهدا في الترصد بذله غيري.بيد أن ذلك كله لا يقع الآن في مركز اهتمام ما أود قوله.) وفي موضع آخر يقول الهاشم ( في حارس التبغ ثمة أكثر من فكرة ممتعة: منها أن الجماهير المخلوقة سلفا تقف علي النقيض من الفرد المختلق في كل آن. لن أبالغ إن قلت إن الرواية تمنح حرية تكوين الذات أمام جموع تريد أن يكون المرء نسخة مكررة( كاربون) عنها، جموع لن يخسر أفرادها سوي ذواتهم حين يطغي الجمع علي المفرد. فكرة أخري في الراوية: حاجة الإنسان إلي التغيّر( من الداخل) وليس التغيير فقط. حاجة تفعلّها راوية علي بدر في أقصي درجاتها، عبر الانتحال. الجبن والخوف انظر شخصيا إلي نفسي وأقول ما لذي تغير فيها كل هذه السنوات التي مرت؟ ما الذي يجعل بعض صفاتي تلازمني، مع رغبتي العارمة في الخلاص منها او تحسينها؟ هل من المتعذر أن نغادر أسماءنا وصفاتنا وما اعتدنا عليه؟ أم أن العائق من تغير الذات هو الجبن والخوف، وليس المحال؟) هنا يحاول احمد الهاشم إن يتجاهل كل الجهد الراصد لمحمد مزيد في الكشف والملاحقة لكل التواريخ المغلوطة وحالة عدم المراجعة للرواية في كل تواريخها وشخصياتها ، وقد كان صائبا في بعضها ومخطئا في بعضها الآخر ، بعكس الهاشم الذي يقر بعلاقته وحميميته مع الكاتب علي بدر ، وبغض النظر عن ما كتبه مزيد والهاشم في مقالات اقرب الي الاستعراض الفني من المقالة النقدية ، ومع ما تعانيه الساحة النقدية من عزوف عن ملاحقة ساحة الأدب العربي والعراقي خاصة ، فاني أؤكد حقيقة هنا في معرض المتابعة لرواية حارس التبغ ، ونحن العراقيين فقط من يلاحق أدبنا العراقي بالنيل المبيت له . لقد استطاع علي بدر وهو الذي يعيش خارج الوطن من ملاحقة الحكاية الساخنة للواقع العراقي بأسلوب يقترب من التسجيلية وهو يستعرض في روايته تواريخ متتالية لبطله المتشظي لمجموعة الشخصيات المفترضة ، وهو القائل في آخر مقابلة له ان وظيفة الرواية لديه تقترب من البحث او مجموعة الأبحاث المعززة بالوثائق والخرائط ، فاليهودي العراقي في حقبة معينة من تاريخ العراق يتحول الي عراقي شيعي في حقبة سياسية حرجة من تاريخ العراق المضطرب في القرن العشرين وبعد التهجير للتبعية الإيرانية يتحول في سوريا البطل اليهوديي الي شخصية سنية وتحت اسم جديد هو كمال مدحت الذي شاء القدر أن يقتل في بغداد في عام 2006 . ويخلف ثلاثة أولاد احدهما من زوجته اليهودية وآخر من زوجته الشيعية وآخر من زوجته السنية يلتقون بعد أحداث الغزو الأخير في بغداد ، ذلك هو التلفيق الفني الذي يتحدث عنه احمد الهاشم ويذمه محمد مزيد .. إفرازات واعية وفيما يقول القاص العراقي محمد خضير في مقالة له ((تختلف قراءة الروائي لأمثاله من الروائيين من قراءة القارئ الاعتيادي، والقارئ الناقد.. ربما قرأ نجيب محفوظ مئة رواية من الأدب الكلاسيكي لكي يبدأ كتابة روايته الأولي، ولعل غائب طعمة فرمان قرأ مثل هذا العدد من الروايات الواقعية قبل أن يكتب النخلة والجيران، وماذا قرأ ماركيز لكي يكتب (مئة عام من العزلة)؟ يقول انه قرأ فوكنر. فإذا أراد جيل الروائيين اللاحق لهؤلاء توطيد دعائم بناء روايات الماضي او نقضه ببناء من طراز آخر، لا يكفي هذا الجيل..التهام مئة عمل روائي عظيم من نتاج القرون السابقة. إن لم يهضم ما تضمنتها من مضامين وتقنيات، ثم يطرح ما هضمه مع إفرازات واعية الي خارج تجربته الخاصة. أما أولئك الذين لم يفلحوا في قراءة عشرين عملا عظيما، فالأرجح إن احدهم لن يكون قادرا علي إنتاج عمل روائي واحد ذي قيمة من أي طراز. من حسن حظ القراء العرب إن تترجم لهم رواية (الطبل الصفيح) مع آخر سنوات القرن العشرين. ويبدو إن عقد روايات القرن بقي ناقصا فلما اكتمل نظام العقد وأصبح لدينا ما لا يقل عن مئة رواية من (الروايات الملعونة ) صار من حسن إتقان الروائي صنعته أن يقرا هذه الروايات المئة، قبل أن يقدم علي كتابة روايته، وكان عدد هذه الروايات (عشرا) عندما وضع سومرست موم كتابه عن أشهر روايات عصره. إن ذائقة روائي هي بدرجة ذواقة الانبذة المعتقة، او صانع العطور المنعشة، لذا فان قراءة رواية هي من درجة كتابة رواية لاذعة، لكن تجربة بمستوي الوعي الروائي ليست تذوقا محضا، او تدريبا حسيا فائقا، إنما هي ممارسة من درجة (الفناء) في عشق النوع الروائي . ويقول في موضع آخر من المقالة .تعتمد كتابة رواية علي التحضيرات والمعلومات التي يستغرق جمعها نصف المدة الفعلية للبدء بكتابة المسودة الاولي . وإذا أضفنا مرحلة تنقيحات المسودة، فان انجاز رواية يتطلب ثلاث مراحل: التحضير والتدوين والتنقيح، واجد إن المرحلة الأخيرة تعادل المرحلة الاولي زمنا وأهمية. وقد تشمل مرحلة التنقيح إعادة كتابة المسودة مرات. إن أكثر الأنماط الروائية احتياجا الي مثل هذا الأعداد الزمني الطويل هي الروايات السياسية والتاريخية والسيرية. التي تجري مجري الخيال. احتاج ماركيز الي آلاف الوثائق والي فريق من المساعدين للبدء بكتابة روايته (الجنرال في متاهته) عن حياة سيمون بوليفار. وقضي علي بدر ثلاث سنوات لجمع المادة الوثائقية عن مدينة القدس.في روايته مصابيح اور شليم ، كذلك يعتمد أمين معلوف علي خزين كبير من المعلومات مبرمج في حاسبه الشخصي. ويؤرشف نجيب محفوظ حياة شخصياته قبل إطلاقها في رواياته. وكان صنع الله إبراهيم قد كتب (تلك الرائحة) من يوميات متراكمة. وكما نعلم فان الأساس الذي نهضت عليه روايات اناييس نن بدا من مذكرات وملاحظات يومية مسهبة. هكذا يزداد العمل الروائي رسوخا يوما بعد يوم بوجود مشاغل تجريبية في مفترق الطرق الروائية العربية والعالمية .. اجبر الروائي العراقي علي تجاهل تاريخه الروائي، وما عاد يثق كثيرا بالبدايات والنهائيات وأظنه يريد أن يقتص من صحوته الواقعية بتأكيد حلمه العقلي الذاتي الحافل بالمسوخ والغيلان. أقام مشغله بين مرحلتين عاصفتين ، وحلمين داميين لكنه يكافح من اجل رواية تضعه في بداية مرحلة جديدة، ولا ينبغي لحراس أحلامه أن يشككوا في هذا الكفاح الأعزل، او أن يتقحموا عليه مشغله الذي يتأمل فيه ويحضر تخطيطاته. اجل انه مؤلف سيء الحظ، لكن الرواية التي يكتبها ستكون أوفر حظا من روايات الماضي. إن روايته المدحورة وحدها ستبقي.)) وفي تساؤل ذكي من صحفي مصري يعمل في صحيفة الأهرام موجه لعلي بدر وروايته حارس التبغ قال :((كان ابتكارك لديوان دكان التبغ للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا رائعا..هل جاءتك هذه الفكرة من تأكيدات الفكرة الواقعية لشخصية بيسوا..أم من الشخصيات الزائفة لحياته؟ رد الكاتب علي بدر قائلا : اتخذت من ديوان بيسوا قالبا للرواية، فديوان بيسوا هو الذي يحرك الرواية من بدايتها إلي نهايتها..ليس من فكرة الشخصيات الزائفة فقط، ولكن من المعني الزائف للشخصية الحقيقية أيضا..والسؤال الشعري والفلسفي بالنتيجة ..هو من نحن في النهاية؟ وهذا السؤال لا تطرحه علي نفسك إلا حينما يهدد وجودك بمفهوم الهوية.. كان ابتكارك لديوان دكان التبغ للشاعر البرتغالي فيرناندو بيسوا رائعا..هل جاءتك هذه الفكرة من تأكيدات الفكرة الواقعية لشخصية بيسوا..أم من الشخصيات الزائفة لحياته؟ اتخذت من ديوان بيسوا قالبا للرواية، فديوان بيسوا هو الذي يحرك الرواية من بدايتها إلي نهايتها..ليس من فكرة الشخصيات الزائفة فقط، ولكن من المعني الزائف للشخصية الحقيقية أيضا..والسؤال الشعري والفلسفي بالنتيجة ..هو من نحن في النهاية؟ وهذا السؤال لا تطرحه علي نفسك إلا حينما يهدد وجودنا بمفهوم الهوية.. أردت أن أقول أن الهويات القاتلة التي أحدثت الحرب الطائفية في العراق هي اختراع، وهي مفتريات سردية، هذه الهويات ليست جوهرا ثابتا مطلقا، وهي ليست معطي بل يمكننا الدخول فيها والخروج منها بصورة مطلقة الاعتباطية، أما الرواية فتقول ما لا يقوله التاريخ..هذه الشخصيات النكرات التي لا يهتم بها التاريخ أبدا، وهي تلعب دورا نقيضا للرواية الرسمية يجب تأكيدها وتقديمها هذا هو هدفي من الرواية وليس هدفا آخر.. لذا نستطيع القول إن دأب الكاتب العراقي علي بدر يستحق التقييم وهو الذي يعمل كالعبيد من الساعات الأولي للصباح حتي ساعة متأخرة من الليل كما يؤكد دائما إلا تأكيدا لهويته الروائية المتميزة عربيا وربما سيجد طريقه الي العالمية ، ولكن عليه كما يؤكد ويتفق عليه الكاتب محمد مزيد واحمد الهاشم علي المحافظة علي منجزه بالمراجعة الدورية لكل صفحة من أعماله وان لا يقع بما حدث في روايته الأخيرة رغم كل أهميتها الفكرية والفنية .. ** منشور بصحيفة "الزمان" اللندنية 21 ديسمبر 2008