لا جدال في أن مؤسسة وزارة الخارجية المصرية من أعرق المؤسسات الدبلوماسية في العالم, وأن سفراء مصر المعتمدين لدي الدول الأخري خبراء في الشأن الدولي والإقليمي.. ويعتد بآرائهم كثيرا, ويكتب معظمهم في المجلات المحكمة دوليا. لكن المؤسف, وكما يقول الرجل العادي, شاعر الحي لا يطربه! وهذا يعني أن سفراء مصر ودبلوماسييها أصبحوا كما يقول البعض كالهم علي القلب, أو هم, بالتعبير الوجودي الشهير, أصبحوا زائدين عن الحاجة, فلا معني لوجودهم ولا أثر يذكر عنهم مع أن بعضهم أفنوا حياتهم في العمل السياسي بل دفعوا سنوات عمرهم ثمنا لمواقفهم. أقول ذلك في شبه مناجاة ذاتية بعد أن تصفحت مجلة الدبلوماسي وأسفت لأن يوم الدبلوماسية المصرية لا يعني تذكره سوي لقاءات, شكلية وموائد تبسط وطعام شهي يوجد علي الطاولات, وحديث, من قبيل طق الحنك كما يقول الأخوة اللبنانيون من مشايخ الدبلوماسيين الذين يتحلقون حول بعضهم البعض, مع قفشة من هنا ونكتة من هناك, وذكريات تدغدغ النفوس حول سنوات خلت في العمل الدبلوماسي الدولي.. ثم ينتهي كل شئ!وقد احتفت المجلة بهذه المناسبة ونشرت صورا تذكارية لبعض كبار الدبلوماسيين مع سلامات بروتوكولية مع وزير الخارجية.. ثم ينفض الحفل.. وقد ارتسمت الابتسامات علي شفاه البعض, مع حنين الذكريات بالنسبة لشيوخ الدبلوماسيين, الذي تحول يوم الدبلوماسية المصرية لتجمعهم وتوزيع شرائح الطعام والحلوي عليهم.. وكان الله بالسر عليما! ولا أنكر أن شأني هنا, شأن كل مصري أتيح له أن يعيش عشرات السنين في الخارج وأن يتابع عن كثب احتفالات الدول الأجنبية الأخري بأعيادهما الدبلوماسية.. وأقول الحق: شتان بين احتفالاتنا الشكلية واحتفالات هؤلاء الجادة والرصينة! فالدبلوماسي عند هؤلاء هو خبير في الشأن الدولي, وقادر علي كتابة دراسات مستفيضة في العلاقات الدولية, وليس فقط برقيات وشعارات يكتبها الإداريون ثم يمهرها السفير بإمضائه وترسل الي الخارجية المصرية دون أن يلتفت إليها أحد! والحق إنني قد عايشت أكثر من مرة احتفالات فرنسا بيوم الدبلوماسية فيها, حيث تكون هذه الاحتفالات أشبه بمؤتمر أو لقاءات بحثية.. أولا, تستمر لمدة ثلاثة أيام, ويتم الإعداد لها بشكل جيد, ويكون السفراء المعتمدون لدي الدول الأخري باحثين في كل مجالات العلاقات الدولية, والأهم أن رئيس الدولة يلتقي بهم في أول المؤتمر ونهايته متحدثا عن الخطوط العريضة للسياسة الخارجية التي تنتهجها فرنسا, علي أن يترك التفاصيل للسفراء والدبلوماسيين ليدلي كل منهم بدلوه. شطائر اللحم والحلوي موجودة ويتم توزيعها بين سفراء فرنسا, لكن الأساس هو الدراسات البحثية التي يتقدم بها الدبلوماسيون, أما عندنا للأسف الشديد نكتفي بالجزء الشكلي وهو الطعام, ورئيس الجمهورية غائب, ووزير الخارجية يكتفي بأن يهز يمين كل من يسلم عليه.. والصحافة تتابع وتنشر الصور.. ثم ينتهي المولد!. وفي هذا الإطار لا يسعني إلا أن أذكر أن أحد سفراء مصر المعتمدين لدي كوريا الشمالية نقح, في تقرير بعثه إلي وزير الخارجية قبل نحو عشر سنوات, أن تنشأ علاقات صداقة وتآخ في البداية مع كوريا الشمالية.. وأن يكون لمصر دور في مستقبل شبه الجزيرة الكورية.. وأشعرني هذا الدبلوماسي المصري بالألم عندما علق علي ذلك بقوله: سوف يتركون هذا التقرير في الرفوف ولن يقرأه أحد.. وسيصبح مع تقارير أخري فريسة للتراب. المؤسف أنهم يريدون من دبلوماسيينا أن يكونوا مجرد مراسلة بلغة القوات المسلحة, يقوم بتسليم برقيات أو ارسال برقيات أخري.. لكن التعامل معهم علي أنهم خبراء في تخصصاتهم.. فهذا هيهات أن يحدث.. ولذلك كنت أندهش عندما التقي بأحدهم في باريس طوال سنوات غربتي وكنت أجد أن اهتمام الدبلوماسي لا يزيد علي معرفة سعر الدولار.. حتي يعرف كم سيتقاضي! وهذا ليس نقدا, كما قد يتبادر الي الذهن, ولكنه الفراغ الذي يشعر به هذا الدبلوماسي أو ذاك.. فلا عمل له ولا دراسات يشغل بها نفسه. أذكر في إحدي المرات التي ذهبت فيها الي السفارة المصرية في باريس ففوجئت بأن وزير الخارجية الذي كان في زيارة رسمية لفرنسا يلتقي بدبلوماسيي السفارة ويطلب منهم أن يكفوا عن البرقيات الفارغة التي يبعثون بها وتتعلق بعلاقة بعض الدبلوماسيين ببعضهم البعض.. وطلب منهم تحديدا أن يعرفوا تفاصيل النظام التعليمي في فرنسا سيما أننا في مصر نتخبط في نظام الثانوية العامة, فمرة نجعله سنة واحدة ومرة نجعله سنتين! أيا كان الأمر, لقد حاول الوزير أن يوجه نظر الدبلوماسيين الي شيء آخر غير السياسة.. إنه التعليم ومشكلاته! كنت أتمني أن تنظم الخارجية المصرية مؤتمرا لسفرائها ودبلوماسييها في الخارج, وأن نتعامل معهم أنهم باحثون أو خبراء أو أصحاب رؤي يمكن الاستفادة منها.. وشرح أبعاد السياسة الخارجية لمصر, سيما أننا نعيش في مناخ جديد صنعته ثورة 25 يناير 2011 بعبارة أخري, ان هذا الاحتفال الشكلي لعيد الدبلوماسية المصرية ليس إلا صورة مكررة لما كان يحدث في ظل النظام السياسي السابق, وليس هكذا تريد الثورة منا أو نريد منها.. ولابد أن أعترف بأن مؤسسة الخارجية المصرية عامرة بالخبراء والمتخصصين في مجالاتهم الخارجية.. ولن يرتفع اسم مصر عاليا بشخص السفير فقط وانما بكل الدبلوماسيين الذين يعرفون أكثر من غيرهم في الشأن الدولي.. والحق ان معظم هذه السفارات أو القنصليات المصرية قد انفتحت علي الجاليات المصرية بالخارج.. ولاشك أننا نبارك هذا الانفتاح ليس فقط لأننا نعيش بعد الثورة عصر الجماهير وليس عصر النظم والحكومات.. كما أن المصري بالخارج هو سفير لبلاده في الخارج.. ومن ثم وجب الاهتمام به. لمزيد من مقالات د. سعيد اللاوندي