اقر وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير بالقاهرة مجموعة من العقوبات الاقتصادية ضد الحكومة السورية لانهاء حملة العنف اللانسانية التي مافتئت تمارسها السلطات السورية منذ عشرة اشهر ضد المتظاهرين السوريين المطالبين بالحرية والكرامة الانسانية. وتمثلت معظم هذه العقوبات في منع سفر كبار الشخصيات والمسئولون السوريين إلي الدول العربية, وتجميد الأموال السورية, ووقف التعامل مع البنك المركزي السوري ووقف رحلات الطيران العربية من والي سوريا. لقد مارست العديد من الدول منفردة أو مجتمعة ذلك النوع من الجزاءات الاكراهية ضد دولة أو مجموعة من الدول تخالف اعراف وقواعد القانون الدولي الراسخة, والتي اقرتها جميع الدول ومن بينها الدول التي تعرضت لهذه الاشكال من العقوبات الدولية, فضلا عن ان العقوبات الاقتصادية تعد وسيلة حاسمة في حالات كثيرة للتأثير علي الشئون الداخلية للدول الأخري, والتأثير علي ارادة الدولة محل العقوبات الاقتصادية, وتنصرف العقوبات الاقتصادية إلي مجموعة الإجراءات التي لاتشمل الاستخدام المباشر للقوة المسلحة في عمليات قتالية. فإذا كان اللجوء إلي الاكراه امرا حتميا لضمان حماية القانون وسيادته في المجال الداخلي, فالأمر لايختلف ايضا في المجال الدولي, حيث درجت منظمة الاممالمتحدة وسابقتها منظمة عصبة الامم علي تضمين ذلك النوع من الجزاءات الاقتصادية في ميثاقيهما, وذلك في حالات محددة يأتي علي رأسها تهديد السلم والأمن الدوليين, بيد ان ميثاق الاممالمتحدة نص علي ضرورة الاقرار بالاخلال بالسلم والأمن الدوليين باعتباره شرطا مسبقا لقيام مجلس الأمن بممارسة صلاحياته الواسعة المبينة في الفصل السابع من ميثاق المنظمة, والتي من بينها فرض عقوبات اقتصادية ضد الدولة العضو في المنظمة والتي تقوم بتهديد السلم والأمن الدوليين. ان القراءة المتفحصة للسابقات غير القليلة التي قامت فيها منظمة الاممالمتحدة بفرض عقوبات اقتصادية ضد دولة عضو بالمنظمة, منذ ان لجأت المنظمة لهذه الوسائل الاكراهية, ضد دولة جنوب افريقيا في الستينيات من القرن المنصرم وحتي الآن تشير إلي ان من بين الاهداف التي تتغياها هذه العقوبات: تغيير سياسة البلد المستهدف والتي لم تجد معه الوسائل الدبلوماسية السلمية, وجعل حكومة هذا البلد غير مستقرة, واضعاف القدرات العسكرية لهذه الدولة, وانصياع البلد المستهدف للقرارات التي سبق ان رفض تنفيذها هذا البلد. ومما لاشك فيه ان هذه العقوبات كان لها دور جوهري في احترام الالتزامات الدولية, واضفاء طابع التنظيم علي سير العلاقات بين الدول, الامر الذي ادي إلي تعظيم دور تلك العقوبات في توجيه اهتمام مشروعية القانون الدولي إليه ومراعاة وضع نصوص قانونية لتنظيمها في المعاهدات والاتفاقيات الدولية كوسيلة ناجعة لردع الدول وتسوية المنازعات الدولية. وفي السياق ذاته فقد ابتدع الرواد من فقهاء القانون الدولي الشروط الضرورية لتطبيق العقوبات العادلة, حيث اشاروا إلي ان الغاية من فرضها هو تصحيح ظلم كبير, ومراعاة الحاجات الانسانية الضرورية لشعوب الدول التي تفرض ضدها العقوبات, وان تكون العقوبات الخيار الأخير قبل اللجوء للقوة المسلحة, وان تفرض هذه العقوبات من خلال منظمة دولية حتي تحوز شرعيتها الدولية. وبالنظر للطبيعة القانونية للعقوبات الدولية الاقتصادية التي اتخذتها جامعة الدول العربية, فهي لاتعد علي سبيل تلك التدابير القمعية الجماعية التي يتخذها مجلس الامن لمنظمة الاممالمتحدة التي تتمثل في استخدام المجلس للقوات العسكرية للدول اعضاء بالاممالمتحدة في القيام بأعمال حددها ميثاق المنظمة ضد الدولة التي تهدد السلم والأمن الدوليين, فميثاق الاممالمتحدة ذاته لايحظر علي المنظمات الاقليمية ومن بينها جامعة الدول العربية ان تقوم بمعالجة الامور والحالات المتعلقة بحفظ السلم والأمن الدوليين, وذلك بالنظر إلي ان طبيعة واهداف ومقاصد المنظمتين متسقتان. وبالنظر ايضا إلي ان العقوبات المفروضة ضد سوريا تهدف أول ما تهدف إلي وقف الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان التي تصر القيادة السورية علي الاستمرار في ممارستها, فإنه يجب ألا نغفل في الوقت ذاته, الحقوق الاساسية للانسان السوري, وذلك بالنظر لما يمكن ان تفضي اليه مثل هذه العقوبات من آثار سلبية وخيمة لن تضر منها الطغمة البعثية الحاكمة المتسلطة في سوريا, لكن حتما سيتضرر المواطن السوري المضطر للسفر للعمل أوالعلاج في اي من الدول العربية ولن يتمكن من ذلك في ظل الحظر المفروض علي رحلات الطيران العربية من وإلي سوريا. فمن الجلي, ان العقوبات الاقتصادية التي فرضها مجلس الأمن في تسعينيات القرن الماضي ضد العراق حين احتل الكويت ولم يمتثل لجميع القرارات الدولية التي صدرت عن الاممالمتحدة واصر في غيه وظلمه, افضت إلي نتائج كارثية لحقت بالافراد المدنيين العراقيين المسالمين الذين لم يتسببوا بأي حال من الاحوال في تهديد السلم والامن الدوليين, ما ادي لوفاة نصف مليون طفل عراقي, اي اكثر من الاطفال الذين ماتوا في هيروشيما. ومن ثم فطن وزراء الخارجية العرب في قرارهم الأخير إلي تبني ما اضحي يعرف بالعقوبات الاقتصادية الذكية, التي تستهدف زمرة المسئولين, ولاتؤثر علي المدنيين العزل الذين لاذنب لهم ولاجريرة إلا مطالبتهم بحقوقهم الانسانية الاصيلة, والعيش الكريم. وبالنظر ايضا إلي امكانية ان تتضرر دول معينة من فرض العقوبات الاقتصادية ضد البلد المستهدف, نجد ان ميثاق منظمة الاممالمتحدة تنبه إلي ذلك الضرر الفادح الذي قد يصيب احدي الدول من اعضاء المنظمة بأضرار فادحة, اذا ما كان اقتصادها يعتمد اساسا علي الاتجار مع الدولة الموقع عليها العقوبات, كما قد تؤدي ايضا إلي اضرار اقتصادية بدولة اخري غير عضو بالمنظمة الدولية, تعتمد هي الاخري اساسا علي التبادل التجاري مع الدولة المعتدية, وفي ضوء ذلك يمكن فهم وإدراك الموقفين العراقي واللبناني من فرض العقوبات الاقتصادية علي سوريا. لقد منحت جامعة الدول العربية الفرصة تلو الفرصة للنظام السوري واطالت في المهل الزمنية الممنوحة له, آملة في تجنيب سوريا ما لاتأمله جامعة الدول العربية, وفي مثل هذه الظروف التاريخية والدولية العصيبة, حري بالقيادة السورية ان تغلب المنطق, وتتخلي عن نعرات قومية ثبت في جميع الحالات انها تضر ولاتنفع.