مأزق خطير انحدرت إليه مصر, ومضت في النفق المظلم للحظة الزمنية الخطيرة التي تمر بها الأمة, مرغمة, باحثة عن طريق للخلاص, واحتمالات المستقبل أمامها متعددة. وربما كان السيناريو المستقبلي الأكثر تفاؤلا: أن جماعة الإخوان المسلمين التي قبضت علي زمام الحكم دون إيمان بالمشاركة, ولا تزال تمضي في خطوات سريعة لاستكمال عملية التمكين أو أخونة الدولة, يمكن أن توقف من اندفاعها, وتستجيب إلي نداء الخارج الأوروبي والحليف الأمريكي والداخل الوطني, فتعود إلي شعار المشاركة لا المغالبة. وعندئذ يجتمع الرئيس مع زعماء المعارضة, ويتفق الجميع علي تأجيل الانتخابات إلي موعد متفق عليه من الجميع, وتشكيل حكومة انتقالية نزيهة للإشراف علي الانتخابات, في ظل رقابة دولية قضائية, تضمن الحياد والشفافية. وأتخيل أن هذا هو أقصر السبل لتحقيق الائتلاف الوطني الذي سبق أن دعوت إليه في زمن مبارك الذي سقط نظامه, ولذلك لا أظن أن هذا السيناريو التخيلي, بالغ التفاؤل, يمكن أن يتحقق, فما رأيناه من حكم الرئيس الحالي ونظامه, وهيمنة جماعة الإخوان علي مقاليد الدولة الأساسية, وما تحقق بالفعل من خطوات أخونة الدولة يغريها بالمزيد. أما المعارضة فلتفعل ما تستطيع, أو تصرخ كيفما تشاء, ما ظل النظام الإخواني يحقق ما يريد. ويمكن أن تقوم بعض أجهزته الأيديولوجية بتشويه المعارضة, أو ملاحقتها بدعاوي قضائية, يرعاها نائب عام عينه الرئيس الذي اتضحت علاقته العضوية بالجماعة أما عن الراعي- الولاياتالمتحدة- فلا مانع لديها أن تقوم بدور الحليف ما ظلت مصالحها مصونة, وما ظلت إسرائيل آمنة تماما, يقوم أعداؤها بالأمس بحمايتها اليوم, وتتحول حماس إلي حمل وديع في براح الظل الإسرائيلي الأقرب دائما إلي الولاياتالمتحدة. ومن الواضح أن السيناريو المفرط في التفاؤل لن يتحقق لأنه أقرب إلي أحلام وردية لا معني لها والأزمات الاقتصادية تخنق الملايين التي توشك علي الانفجار. وتتكرر مفارقة الأغنياء الذين يزدادون غني والفقراء الذين يزدادون فقرا, في ظل سياسات اقتصادية تفضي إلي كارثة, وتمزق سياسي تحول إلي صراع سافر بين القوي الديمقراطية الوطنية والإخوان, وبين حلفاء الإخوان والطمع الإخواني الذي تحول إلي جشع شديد الوقع, حتي علي الحلفاء من حزب النور الذي ينبئ إن غيره سيلحق به في التمرد علي الهيمنة الإخوانية التي تستأثر بكل شيء, ونسيت تماما وعودها القديمة بعد أن استبدلت المغالبة بالمشاركة. والنتيجة هي ما نراه علي امتداد مصر من حركات تمرد متعددة الأبعاد والطوائف والأماكن, ابتداء من مدن القناة وليس انتهاء بمدن محافظات الوجه البحري. وتعود الشرطة إلي ممارسة دورها القديم الذي انتهي إلي كارثة. وللمرة الأولي يذهب مواطنون مصريون إلي الشهر العقاري ليوكلوا أمورهم إلي القوات المسلحة. وللمرة الأولي تعلن فصائل من الشرطة رفضها لأن تكون أداة سياسية لقمع القوة الوطنية. وظني أن معدلات الصدام بين شباب القوي الوطنية والشرطة سوف يتزايد. ومن الممكن أن يتكرر ما حدث من قبل, فلن تستطيع القوات المسلحة أن تبقي مكتوفة الأيدي, ومهمتها الأولي حماية أبناء هذا الوطن. ولا مفر أمامها من التدخل الحاسم إذا تصاعدت المصادمات والمظاهرات التي نري شهداءها وضحاياها تتزايد كل يوم. ولن يعترض الراعي الأمريكي ما ظلت مصالحه مصونة, والصداقة معه قائمة, والتعهدات له دائمة التنفيذ. والراعي الأمريكي برجماتي تماما, يمكن بالسهولة التي تخلي بها عن نظام مبارك أن يتخلي عن نظام الإخوان. مؤكدا أن ميليشيات الإخوان سوف تخرج من مخابئها, وقد يأتيها مدد من كتائب القسام كما حدث من قبل. لكن مادامت الأخونة لم تصب الجيش ولا قياداته, فإن هذا السيناريو ممكن الحدوث علي أرض الواقع, ما ظل العصيان المدني يتصاعد, وما ظلت دماء الشهداء تروي أرض مصر بما يدفع إلي المزيد من الغضب والعنف. وعندئذ. يبقي السيناريو الثالث الذي ينطوي علي احتمالات مخيفة مرعبة, إذ يمكن أن يتولد عن الضغط الاقتصادي انفجار لن توقفه حملات الإحسان الإخوانية أو رشاوي الزيت والسكر, فندخل في انتفاضة شعبية أضعاف أضعاف انتفاضة الخبز التي حدثت في يناير سنة1977, أيام السادات, وأطلقت عليها المعارضة اسم انتفاضة الجياع, وأطلق عليها السادات انتفاضة الحرامية. والتي شملت مصر كلها من أسوان إلي الإسكندرية, فاضطرت الحكومة إلي التراجع عن قراراتها, واضطر السادات إلي استدعاء القوات المسلحة التي أعادت النظام والأمان. وكان السبب زيادة أسعار بعض السلع. وسوف تحدث زيادات أكثر وأشد ظلما في الأيام المقبلة, تنفيذا لأوامر البنك الدولي, وطاعة لتوصيات ولي الأمر الأمريكي. ومن يضمن إذعان الجوعي إذا انقلب بهم الجوع من الإذعان إلي التمرد والانفجار, وفوق ذلك كله الاحتقان السياسي, ونسيان النظام الحاكم شعارات ثورة يناير التي سرقت: الخبز, والحرية, والعدالة الاجتماعية, والكرامة الإنسانية. ولا أستطيع أن أتخيل أية قوة تواصل الضغط علي ملايين من المستذلين المهانين دون أن ينفجروا. ولا يتعلل أحد بأن الشعب المصري شعب مسالم, لا يمكن أن ينتهي به الأمر إلي حد الحرب الأهلية. إن الاحتمال قائم كحد المقصلة فوق أعناق الجميع دون استثناء, ولا يظن أحد أنه بمنجاة من هذا الخطر الكابوسي الذي لا نجاة منه إلا بالبحث عن صيغة جديدة للتآلف الوطني مرة أخري. وعلي نظام الإخوان أن يعود إلي مبدأ المشاركة فهي قارب النجاة له ولنا. وعلي قوي المعارضة أن تقبل بأي عرض جدي للتقارب والتآلف تدعو له القوي الحاكمة التي هي المنوطة بذلك, وعليها الوفاء بحق الجماهير التي أنزلتها منزلة الرئاسة, إدراكا منها أن الديمقراطية هي الحل. وأن الائتلاف الوطني هو قارب النجاة. أما نحن الذين أحبطت أحلامنا فليس أمامنا سوي المعارضة التي قد تدفع نظام الحكم إلي الطريق العادل الذي يحقق مصلحة كل أبناء الوطن دون استثناء أيا كان, ما ظل مواطنا في وطن هو أصل الحضارة والمدنية, وإلا فالكارثة آتية, لا ريب في ذلك. لمزيد من مقالات جابر عصفور