ما يحدث الآن في مصر يعود الي تفاعل عدد من العناصر الداخلية والخارجية معا بعضها يستقوي بدعم قوي داخلية وخارجية. لماذا لم يحدث ذلك في بلاد الربيع العربي الأخري بنفس الدرجة المتكاثفة. فهل لمصر خصوصية القلب الاستراتيجي الجغرافي والسكاني والثقافي والقلب السياسي؟ العناصر الداخلية تنبع من غضبة او وقفة ضد أوضاع جائرة تواجه برفض عنيف فتتنامي الي مد ثوري موحد الأهداف وإن اختلفت الفصائل فيما بعد. هذه سمة كل الثورات بمعني أحداث تثير حراك جبهة تلحقها جبهات أخري كرفاق طريق الي حين, ثم تختلف المقاصد في تشكيل البنية السياسية الجديدة فتبرز ائتلافات لا تلبث أن تنفك, فالسياسة لاقلب لها حتي لو رفعت شعارات نبيلة. أما العناصر الخارجية فهي قسمان أولهما دول الجوار بمعني تأثر وتأثير دول اقليم ثقافي جغرافي علي اتجاهات حركة التغيير في الدولة المعنية. والثاني تداخلات دول المصالح الكبري اقليميا وعالميا بغرض الحد من قدر ونوع التغيير في دور هذه الدولة ضمن اطار الاستراتيجية الكبري. كلا النوعين من التداخل الخارجي يسعي لمحاولة توجيه التغيير لصالحه او علي الأقل تخفيفه درءا لتأثيره علي البنية السياسية للاقليم. وللايضاح فإن معالجة المتغيرات الليبية اختلفت عن اليمنية والسورية رغم أن كلها تسعي لتغيير حكم استبدادي الي نظام ديمقراطي. فالي جانب وقف نزيف الدماء العربية كمطلب انساني يدعو للتدخل إلا أن المحرك الأساسي للتدخل كان مختلفا. ففي ليبيا برز تدخل القوي الأجنبية غالبا بسبب البترول فكان بصورة شبيهة بالعراق دون تدخل عسكري بري, بينما كان التدخل الاقليمي العربي في اليمن هو الأبرز تجنبا لتأثير نجاح كامل للثورة علي بنية دول الجوار ومن ثم ترك حل الموقف لتفعيلات دول الخليج. أما في سوريا فالتدخل العربي الجزئي مفهوم علي ضوء علاقات عربية ايرانية متوترة, بينما التدخل الغربي القوي مؤسسا علي محاولة كسر روابط سوريا وايران وتأثيرها علي لبنان وفلسطين واسرائيل. المنظر العام في تونس والمغرب لم يخل من تداخلات خارجية وإن كانت أقل حدة وسار التغيير بسلاسة أكثر حيث إنه لم يواجه عنف الرفض كما حدث في باقي دول الربيع العربي. نعود الي تساؤلنا حول خصوصية مصر في قلب هذه الأحداث. والاجابة معروفة لدي الجميع. فهي جسر شرق العالم العربي وغربه وجسر التجارة الدولية من الشرق للغرب وهي رصيد سكاني عربي كثيف ومن ثم قوة عسكرية مهمة. وفوق ذلك كانت هي الأقدم تحضرا والأكثر حداثة في التنوير والتعليم والعلاقة مع الغرب سلبا وايجابا. ومن ثم كان دورها فعالا ثقافيا ونهضويا في الأرجاء العربية. وما يحدث في مصر غالبا له اصداء عربية واقليمية. ومصر هي التي تحملت الجانب الأكبر من اعباء المواجهات مع اسرائيل والغرب ولاتزال تتحمله من دماء ونفقات تفوق أحيانا قدراتها فكبلت نموها. اشارة بسيطة للتاريخ تطرح تساؤلا هل حتما أن تكون هي التي تصدت للحملات الصليبية والمغولية قديما والفرنسية والانجليزية حديثا والاسرائيلية الامريكية المعاصرة؟ هل هذا هو ارثها الجغرافي والاستراتيجي الذي يجب أن تتعايش معه؟ إذن هذا الارث هو الذي يجعل لمصر هذه الأهمية ومن ثم هو مصدر التعقيدات التي تشوب ثورتها للتغيير. وأغلب الرأي أن امور مصر لو تركت لعناصرها الداخلية ما كانت تتأزم لهذا الحد الذي نعيشه الآن. لكن التداخلات الخارجية أيا كانت هي التي تعقد تفاهما مطلوبا لأبناء مصر حول مصر أولا قبل صراع الأجندات والايديولوجيات وبعضها نابع من واقع مصر واخري من تاريخ فاتت صلاحيته وثالثة أجنبية المنشأ. علي سبيل المثال هل كان يمر رفع علم ايراني او امريكي في المليونيات مر الكرام كما حدث حين رفع البعض علم السعودية؟ علي كل الحالات فإن اختلاف الآراء يشير بالضرورة الي حيوية صحية لشعب بهذا الحجم وهذه القدرة علي الاندماج التي أهلت بقاء الدولة نسيجا موحدا ثقافيا وسلاليا دهورا طويلة مع اختلاف الأديان والمذاهب. وقد أدت سياستنا المؤسفة في ماض قريب الي تراكمات كادت تهمل موضوعات حيوية كعلاقتنا مع دول حوض النيل او مشكلة النوبة او سياستنا تجاه أبناء سيناء, وهي للآن لم نولها ما تستحقه من اهتمام بتطوير سياسات واقتصاديات جديدة بديل الكلام المرسل. اسرائيل تخشي مصر القوية بوحدتها ومن ثم تسعي للشر ذمة والفوضي بها ضمانا لها. فهي برغم معاهدة الصلح تري الغول في مصر, ولهذا تأتي تصريحات متشدديها بحتمية مواجهة جديدة مع مصر وقد تستدعي قلاقل سيناء محركا لذلك. فمتي وكيف نحل قضية سيناء؟ كذلك ارتبطت حدة الموقف الاسرائيلي من مصر برعايتها التقريب بين الفلسطينيين ودعم اعلان دولة فلسطينية معترف بها دوليا لأنه يقضي علي استراتيجية التفتيت, فقيام دولة هو بمثابة مسمار في نعش التوسعية الامبريالية الاسرائيلية. وفي هذا المضمار تسعي امريكا الي قيام توازنات مصرية تضمن بقاء اسرائيل وتضمن نقطة تفوق في الشرق الأوسط لامبراطورية امريكية متآكلة المصداقية. لهذا فأفضلياتها حكم مستقر في مصر وقد لا يهمها من يحوز السلطة فالغرض الأساسي بنية ذات شكل ديمقراطي سلس في التعامل من اطياف ليبرالية قد يكون سقف مطالبها مشاكسا للسياسة الأمريكية. وأخيرا غني عن البيان أن بعض الدول العربية تحبذ وصول احزاب اسلامية لرايات السلطة فهي بالنسبة لهم الأقل مخاطر من بين القوي السياسية في مصر. ومع كل هذا فإن أبناء مصر بواقعيتهم التجريبية الطويلة هم الذين سوف يقررون مصير مصر في صورة ديمقراطية لمستقبل أفضل. المزيد من مقالات د. محمد رياض