طفلان بريئان بنت وولد عاشت أمهما ترعاهما بعد أن مات الأب في أحد الحروب,ولقد علمت الأم أن طفليها مصابان بمرض من نوع نادر; فالموت كان مصيرهما المحتوم ما إن يتعرضا( لضوء الشمس)!! ومن ثم اختبأت الأم بطفليها خلف ستائر سميكة تتدلي من أعلي نوافذ البيت( القديم) إلي أرضيات الغرف لسنوات, علها تحول دون أن يخطف طفليها طائر الموت البغيض, والويل كل الويل لمن يجرؤ من زوار المنزل( شغالات وخلافه) علي فتح هذه الستائر أو مجرد الاقتراب منها, لدرجة أن الأم أوصدت جميع أبواب غرف المنزل خشية حدوث خطأ غير مقصود, وراحت تحمل في جيوبها( مفاتيح) هذه الغرف, تفتح الأبواب حين الحاجة إلي ذلك, فتغلقها مسرعة ما إن تدلف إلي داخلها, فلما تقضي ما أرادت,عادت فأوصدت الأبواب!! ظلام دامس يكتنف هذا المنزل( بوصاية) من الأم, وأجواء شديدة الغموض يحكمها سبب خفي للمخالطين, ولكنه السر الذي تعلمه الأم علم اليقين( ضوء الشمس)!! الظلام باعث علي إثارة( المخاوف), والمخاوف باعثة علي إثارة( الهلاوس), ولقد حدث ذلك بالفعل; فلقد بدأت البنت تري أشخاصا مجهولين بالمنزل, بل وبدأت البنت تتهيأ أنها تقيم مع هؤلاء الأشخاص حوارا; فمنهم طفل يقاربها في العمر, راح يتحدث إليها, فراحت تتحدث إليه, ولقد ترددت البنت كثيرا قبل أن تفاتح أمها بشأن هؤلاء الغرباء, فلما فعلت,نهرتها الأم بشدة وأكدت لها أن ما تتهيؤه ضربا من الخيال المريض; وأنه عليها أن تتوقف عن ذلك فورا.. وإلا!! ما زاد البنت إيمانا بصحة ما تقول, هو أن أحد الشغالين بالمنزل وهي امرأة بلغت من العمر عتيا أيدت البنت سرا فيما تحكيه لها, و أجزمت أنها تري هؤلاء الغرباء أيضا!! الأم نفسها بدأت تسمع أصواتا غريبة بالمنزل, حتي أنها في ذات ليلة سمعت شخصا يعزف علي آلة البيانو الموجودة داخل غرفة مؤصدة بمفاتيح في جيبها, فذهبت علي الفور تحمل سلاحا في يدها وفتحت الغرفة, فلم تجد أحدا بداخلها!! ولكنها وجدت غطاء البيانو مفتوحا ما يعني أن أحدا كان بالفعل يستخدمه!! تمالكت الأم نفسها وأسرعت نحو الغطاء الخشبي لآلة البيانو فأوصدته, ثم خرجت من الغرفة وأغلقتها بالمفتاح مرة أخري, فما هي إلا خطوات قليلة حتي سمعت صوتا بالغرفة مرة أخري, ما دفعها إلي فتح الغرفة مرة ثانية, فكانت دهشتها حين رأت غطاء الآلة مكشوفا!! هناك غرباء في المنزل بالفعل ويبدو أن طفلتها كانت محقة!! أما المصيبة الأكبر فكانت عندما استيقظت الأم في الصباح علي صراخ طفليها,فهرولت نحو غرفتهما, لتكتشف أن جميع ستائر( الغرفة) قد انتزعت من النافذة, لا.. بل أن ستائر نوافذ المنزل بأسره قد انتزعت لقد( اقتحم) النور المنزل!! ( هرج ومرج) في أنحاء المنزل الذي كان معتما, و( فوضي) ما بعدها فوضي خشية( النور) من بعد اعتياد مطبق علي( منتهي العتمة) ومع الجميع كل الحق في هذه المخاوف!! من فعل ذلك ؟ لابد وأن يدا( خفية) بالمنزل قد فعلت!! فتحمل الأم( سلاحها) وتوجه فوهته صوب( الخدم) القاطنين معها بالمنزل لا لشيء إلا لكي تطردهم خارجه,فليس هناك من( يخون) العهد سواهم, وإن كان لا يحق لأحد أن يغير( النظام السائد) فلابد وأن يكون( الخدم)!! ولكن( الصبيين) اللذين ذاقا( مذاق النور) قد أصبحا( أكثر إقداما) عن ذي قبل,فخرجا إلي حديقة المنزل ليلا في غفلة من أمهما و( طوع) أمهما, وليكتشفا اكتشافا رهيبا: هناك مقبرة مختبئة تعلوها أكوام من الحشائش بالحديقة, راحا يزيلان عنها ما يعتليها,وتكتشف الأم فعلتيهما فتهرول نحو غرف الخدم تفتشها بحثا عن مزيد من الأسرار,لتكتشف أن الخدم الذين عاشوا معها طوال هذه الفترة ما هم إلا أمواتا قضوا نحبهم منذ سنوات, وأن تلك كانت مقبرتهم!! وهنا فقط( يتجمهر) الأموات( شغالو المنزل) في وجه السلطة المطلقة( الأم) فلا تجد بدا من استخدام( السلاح) لأول مرة كي( تفرقهم), فلا يبالون حينئذ( بالطلقات).. ومتي كان الأموات يبالون بالطلقات ؟ فتلتقط الأم طفليها وتهرول مسرعة إلي داخل المنزل لتحتمي,و لتكتشف هرجا ومرجا في( الطابق العلوي) وبالتحديد في( أعلي) غرفة بالمنزل, فتقترب فتسمع إناسا يتدبرون أمرا ما حول منضدة( مستديرة), فتفتح الباب فتري هؤلاء الأشخاص ولا يرونها,تتزعمهم( مرأة) ضريرة) راحت تسأل الأم وطفليها بإلحاح شديد: ما دمتم أمواتا لماذا إذن تعيشون في هذا المنزل ؟ أموات ؟! لا لسنا أمواتا ؟! هكذا صرخت الأم وطفلاها!! وتكرر المرأة الضريرة سؤالها مرات ومرات,( فيتجاسر) الطفلان بالاقتراب نحوها فيهمسان في أذنيها بالحقيقة: نعم, لقد( قتلتنا) أمنا بالفعل في ذات يوم من قبل أن تنتحر!! وتدرك( الأم) لتوها و( للمرة الأولي) أنها و طفليها بالفعل من الأموات وليس هؤلاء الجلوس أمامها,و لينسدل( ستار النور) علي هذا المنزل الكئيب( فيهدأ حاله) من بعد أن نفذ إليه الضياء من جميع النوافذ.. وعلمت كل نفس قدرها وحقيقة شأنها!! و لتنتهي أحداث فيلم عبقري كان بعنوان( الآخرون) أو(TheOthers) عن رواية قصيرة عميقة تعود للقرن ال19 للروائي البريطاني هنري جيمس وكانت بعنوان(TheTurnoftheScrew)!! .. مشاهد تذكرتها لتوي وأنا حل بهذا البلد وما جري وما يجري بهذا البلد: إنها مشكلة أن تتصور أنك قادر علي إيقاف عجلات الزمن; أن تحيا بفكر زمن غير الزمن الذي تحيا فعليا بداخله; أن تطبق نواميس واقع قد ولي زمانه في أطار واقع آخر مغاير له تماما, ويكون منهجك هو أن تنعزل أو قل تتصور أنك منعزل ثم تتصور أنك قادر علي أن تعزل من هم معك عن( ضياء) الواقع الجديد, فيلح الضياء عليك من كل جانب رغما عن أنفك إلي أن( يقتحم),وحين يقتحم الضياء فلا مراد لتدفقه, يتسرب إلي أحشاء المكان فيفرض النور علي الظلمة فرضا,تهرول أنت في كل اتجاه لتصد النور عن الظلام ولكن الظلام مشتاق بطبيعته للضياء, أيا كان مصدره, وأيا كانت قوته,ثم أيا كانت خسائره!! وعندما ألح الضياء, كان أول من اختار هو ذلك الجيل الجديد الطفلين!! هذان البائسان بمخاوف أمهما التي بذلت كل الجهد متصورة أنها تحميهما من وعثاء الضوء بأن ألقتهما في وعثاء الظلمة, تحميهما وهي التي في الأصل قد قتلتهما!! أما هؤلاء الأموات القدامي الخدم فهم أموات منذ زمن بعيد, يعلمون أنهم خدم مثلما يعلمون أيضا أنهم أموات, ولكن أحد لا ينكر أن هؤلاء الأموات( المهمشين), غير المسموح لهم بشيء, أشباه الزوار, المشكوك فيهم دائما, المتلقون للأوامر والتعليمات دوما,صاغرو الأفواه, المطيعون رغما عن أنوفهم جميعا( علي كثرتهم).. هؤلاء الأموات كانوا هم الذين يرون الحقيقة ساطعة, ويعلمون علم اليقين أن الضياء نافذ نافذ لا محالة; ينتظرون بفارغ الصبر ومنتهي الحكمة تلك اللحظة التي ستنقلب فيها( الأوضاع السائدة) رأسا علي عقب!! أما الأم مصدر( السلطة المطلقة) في المنزل فكانت هي مفتاح الأحداث الوحيد;فبدون إدراكها هي للواقع الجديد لما فتحت الأبواب, وما( استقرت) الأوضاع بداخل( المنزل); فهي( الوحيدة) التي كانت منكرة للواقع; بدليل أن الطفلين همسا بالحقيقة واعترفا بها للأحياء الذين( اقتحموا) عليهم عالمهم الخارج أصلا عن إطار الواقع الفعلي من حولهم!! ولكن دليل الأحياء في اختراق هذا العالم وتحفيزه علي( الضياء) كان امرأة ضريرة!! ولماذا ضريرة ؟ ضريرة لأنها لا تري كل الحقيقة,حقيقة الأموات في عالمهم داخل هذا المنزل, ثم حقيقة الأحياء الذين قدمت معهم إلي هذا المنزل والذين علمنا أنهم زبائن كانوا يبغون شراءه وامتلاكه!! ولكن القادمين( الجدد) إلي المنزل قد رحلوا وعدلوا عن فكرة المكوث فيه بقوة الأموات القاطنين بداخله وليس لأي سبب آخر إنه بيت الأموات المنتمين إلي زمن آخر وواقع آخر, ولقد ازدادت قوتهم وتضاعفت فقط عندما تصالحوا مع واقعهم الجديد.. طعم جديد للحياة بمذاق الموت!! ولقد تنبآت الرواية بأن يرحل( الآخرون) دائما عن المنزل, وليظل هذا المنزل لغزا مغلقا علي أصحابه من( الأموات) متناغمين فيما بينهم علي حالهم, يكتنف عالمهم الغموض وهكذا كان حال( الشرق) دائما, وهكذا دأب( الغرب) دائما علي أن يجوب الشرق مكتشفا يحمل المشاعل.. ثم يرحل بعد ذلك إلي حيث جاء بقوة الأموات!! المزيد من أعمدة أشرف عبد المنعم