جهاز الاستخبارات الإسرائيلي( الموساد) يخترق حركة حماس وغيرها من الفصائل الفلسطينية, هذه إحدي حقائق الصراع الفلسطيني الإسرائيلي المعلومة منذ زمن غير قصير. ولذلك لم يكن مفاجئا أو مدهشا الحديث عن تورط عناصر من حركتي حماس وفتح في إمداد هذا الجهاز بالمعلومات التي مكنته من متابعة سفر محمود المبحوح القيادي في حماسإلي دبي وإرسال فريق لاغتياله في غرفته بالفندق في20 يناير الماضي. وتدل معطيات هذه الجريمة علي أن منفذيها امتلكوا معلومات كاملة, أو علي الأقل كافية تماما, لتنفيذها بنجاح, كما تفيد هذه المعطيات أنهم كانوا مدربين جيدا, ويعني ذلك أنهم استعدوا لهذه العملية قبلها بوقت كاف, ولا يمكن أن يتأتي ذلك إلا إذا كانوا علي علم بتحركات رجل يفترض أنه يعرف تماما كيف يؤمن نفسه فإذا فشل في ذلك, لابد أن يكون هناك من وشي أو وشوا به. وهكذا يبدو أننا إزاء جريمة واضحة معالمها إلي حد كبير, وأنها كانت نتيجة تعاون بين جهاز موساد وعملاء له داخل بعض الفصائل الفلسطينية, وبالأخص حركة حماس, ولذلك فالسؤال المثار الآن لا يتعلق بصحة هذا الاتهام من عدمه, وإنما بمدي إمكانية إثباته بأدلة قانونية ومواجهة الصعوبات التي مازالت تواجه التحقيق في هذا النوع من الجرائم بالرغم من التقدم التكنولوجي الهائل. فالتكنولوجيا الحديثة التي جعلت تنفيذ عمليات اغتيال ناجحة أكثر سهولة, أو أقل صعوبة, لم تسهل بالمقدار نفسه كشف الحقيقة الكاملة بشأن هذه العمليات. فإذا كانت التكنولوجيا المتقدمة زودت أجهزة الأمن والتحقيق بأدوات أكثر فاعلية سواء في مراقبة الأماكن, أو في جمع المعلومات, فقد أتاحت لأجهزة الاستخبارات, كما للعصابات وغيرها من الجهات التي تقوم بعمليات لتصفية خصوم أو أعداء, أدوات مضادة تمكن منفذي هذه العمليات من الإفلات. فبالنسبة إلي أجهزة الأمن والتحقيق, أصبحت الكاميرات الحديثة قادرة علي التقاط أصغر التفاصيل, فهي لاترصد حركة الناس فقط وتصرفاتهم, وإنما تسجل أدق التفاصيل مثل البنية العظمية في وجه الإنسان, وأصبح ممكنا نقل هذه التفاصيل الدقيقة بعد تحليلها من خلال نظام رقمي إلي أجهزة الكمبيوتر, كما صار في استطاعة هذه الأجهزة أن تكشف عمليات التزوير التي يلجأ إليها منفذو عمليات الاغتيال, وخصوصا بعد انتشار جوازات السفر البيومترية التي تحمل رقاقاتها معطيات يمكن التحقق منها بسهولة ولا يتيسر تزييفها, وفي عصر الشبكة العنكبوتية, لم يعد سهلا تزييف هوية الشخص من خلال تزوير بعض الوثائق, كما أصبح من اليسير كشف حقيقة الأشخاص الذين تستدعي المهمات السرية التي يقومون بها تغيير هوياتهم واختراع قصص حياة لهم لا علاقة لها بماضيهم. كما أن الوسائل التي كانت مستخدمة بنجاح لإخفاء أو تمويه جرائم قتل واغتيال, مثل وضع السم, فقدت الكثير من فاعليتها السابقة التي أتاحت لجهات الاستخبارات السوفيتي كي.جي.بيقدرة هائلة في مجال تصفية المنشقين. وتدل ملابسات تصفية ضابط الأمن الروسي المنشق الكسندر ليتفيسكو في لندن عام2006 علي ذلك. غير أن التكنولوجيا الحديثة توفر لمنفذي عمليات الاغتيال, والأجهزة التي تقف وراءهم, أدوات لاتقل فاعلية في المقابل, فإذا كان التطور المذهل في نظم كاميرات التصوير الحديثة يتيح لأجهزة الأمن والتحقيق امكانات غير مسبوقة, فقد أتاح التقدم التكنولوجي لمنفذي عمليات الاغتيال امكانات لا سابقة لها أيضا في مجال التشويش علي هذه الكاميرات. وكانت جريمة اغتيال المبحوح في دبي نموذجا لمباراة كبري علي أعلي مستوي. فقد رصدت الكاميرات عالية التقنية التي تستخدمها شرطة دبي حركة أفراد العصابة التي تولت تنفيذ عملية اغتيال المبحوح, ونجحت التحريات الأمنية في كشف تفاصيل دقيقة عن هذه العصابة, سواء المجموعة التي نفذت عملية القتل أو المجموعات المساندة التي كانت لكل منها مهمة محددة, بما في ذلك مجموعة الطوارئ التي كانت مكلفة بإيجاد بدائل لإخلاء القاتلين إذا فشلت الخطة التي كانت موضوعة لضمان مغادرتهم البلاد. ولذلك جمعت شرطة دبي معلومات تفصيلية شديدة الدقة عن الجناة, ودور كل منهم, وبطاقات الائتمان الصادرة عن ميتا بنك في الولاياتالمتحدة, والتي استخدمها14 فردا منهم لسداد النفقات, وجوازات السفر التي حملوها جميعهم, وصولا إلي معرفة أنهم موجودون الآن في إسرائيل حيث لايمكن ملاحقتهم والقبض عليهم للتحقيق في الوقت الراهن. غير أن هذا الإنجاز الكبير الذي حققته شرطة دبي, اعتمادا علي كفاءة ضباطها في توظيف التكنولوجيا الحديثة المتاحة لهم, قد لايكفي حتي الآن لتوفير الدليل القانوني الدامغ اللازم لإدانة الجناة إذا أمكن القبض عليهم وإحالتهم علي المحاكمة, فقد تمكن الجناة, بدورهم, من استخدام قدراتهم التكنولوجية في الدقائق الحاسمة التي تم فيها قتل المبحوح, إذ نجحوا في شل عمل الكاميرات الإلكترونية في داخل غرفته بواسطة أجهزة متقدمة كانت معهم, ثم أعادوا تشغيلها دون أن يتركوا أثرا وراءهم, وخرجوا وأغلقوا الباب بطريقة تدل علي أنه أقفل من الداخل, فالصور التي عرضتها شرطة دبي ترصد حركة الجناة في أماكن عدة ليس من بينها غرفة المبحوح( الغرفة230) ويعني ذلك أن عملية القتل نفسها لم توثق. وإذا ثبت بشكل يقيني ونهائي أن الدقائق التي مكثها الجناة في غرفة المبحوح وقاموا خلالها بقتله(19 دقيقة من الساعة الثامنة و24دقيقة إلي الثامنة و43دقيقة)لم تصور, فربما لايبقي أمل في توفير دليل قانوني حاسم لإدانتهم قضائيا وليس سياسيا إلا تحليلDNA)) إذا وجدت شرطة دبي سبيلا إلي ذلك. ومع ذلك, فقد حققت شرطة دبي إنجازا كبيرا وسجلت أهدافا مؤثرة في مرمي جهاز الموساد في هذه المباراة التي حققت تفوقا فيه بالرغم من صعوبة القضية, فقد أجاد الجناة استخدام التكنولوجيا الحديثة لإتمام مهمتهم ومغادرة دبي. وكادوا ينجحون في عملية التمويه التي قاموا بها لإخفاء معالم الجريمة إلي حد أن تقرير الطبيب الشرعي أكد أن وفاة المبحوح طبيعية. ولم يكن هناك ما يدعو إلي الشك للوهلة الأولي لأن غرفته بدا كما لو أنها مغلقة من الداخل, ومعلق عليها لافتة يرجي عدم الإزعاج, بما يوحي بأن أحدا آخر لم يدخلها. ولكن معاينة الموقع أثارت شكا لم يلبث أن أصبح حقيقة عندما أخذت نتائج التحريات تتوالي. وستظل هذه المباراة مستمرة لفترة قد لاتكون قصيرة بين محاولات شرطة دبي تأكيد فوزها بشكل حاسم, ورهان جهاز الموساد علي صعوبة تحويل المعطيات والمؤشرات والدلائل القوية علي إدانته إلي أدلة قانونية دامغة.