في خضم الحرب الدائرة علي مياه النيل والعدوان الجائر علي استحقاقات مصر في هذه المياه والاستهتار الكامل بكل الأعراف والقوانين الحاكمة لاقتسام المياه بين الدول المتشاطئة علي الأنهار الدولية والتسارع المؤسف للعديد من دول أعالي النيل علي بناء السدود والخزانات دون أي اعتبار للشركاء ممن شاء القدر أن يكونوا في المصب. والتنافس الشديد بين العديد من الدول علي استغلال حاجة دول حوض النيل الفقيرة للمال والتنمية والمبادرة لاستئجار أو استملاك ملايين الأفدنة من الأراضي في هذه الدول لزراعتها ونجاح آلة الإعلام في بعض دول المنبع في إقناع العديد من دول العالم بحجتهم التي تظهر أنهم هم الأشد فقرا بينما دول المصب قد وجدت الغني في الاستفادة بأمطار تهطل علي أراضيهم فتدمر الزرع وتجرف التربة وتأخذ أمامها الأخضر واليابس فما كان من هذه الدول إلا أن ساهمت في تمويل مشروعات انشاء السدود وزراعة الأراضي وتوليد الطاقة بل وساعدت أيضا في تسويق كل ما يحتاج إلي تسويق في خضم ذلك كله ووسط ردود أفعال مصرية أقل ما يقال عنها أنها ليست علي مستوي ضخامة الأحداث وفداحة النتائج وكارثة المتوقع وسوء المصير تأتينا رحمة السماء بأخبار رائعة عن اكتشاف خزان جوفي هائل من المياه في الصحراء الغربية ويأتي من يقول إن هذا الماء يكفي لزراعة مئات الآلاف من الأفدنة ويقول آخر بل ويجزم بأن هذا الماء كاف لزراعة الملايين من الأفدنة. وهنا أود أن ألفت نظر القارئ الكريم بكل أمانة إلي مجموعة من الحقائق وهي: إن توارد هذه الأخبار التي يمكن أن نقطع بصحتها ولكن لا يمكن القطع بكميات المياه التي يمكن الاستفادة بها من ورائها هو بلا شك بصيص من النور في ليل حالك الظلمة لم يشهد أحد ولم تشهد الإدارة المائية المصرية له مثيلا علي مر العصور وإن دل ذلك علي شيء فإنما يدل علي أن مصر مهما حدث فيها فإنها دائما محروسة ومشمولة بعناية الله وعين الرحمن التي لا تغفل ولا تنام. إن فريقا من أولي العلم لم يختلف علي فرع من الفروع أو أصل من الأصول قدر الاختلاف علي خزانات المياه الجوفية والسبب من وجهة نظري ربما يعود إلي تعدد الاختصاصات في هذا الشأن بين المهندسين وعلماء الجيولوجيا والهيدرولوجيا والتنافس الشديد بينهم بدلا من التعاون والتنسيق وأجزم أن السبب يعود أيضا إلي أن الماء الجوفي يقبع تحت سطح الأرض ولا تراه العين المجردة حتي مع ظهور تقنيات تلتقط الصور وترصد الأعماق وتطوير نماذج رياضية تحلل وتحسب رغم كل ذلك يبقي الأمر جدليا يصعب معه فهم اقتناع فريق برأي إلي حد التعصب والإيمان بينما يرفض فريق آخر نفس الرأي إلي حد التكذيب والاستياء. عندما قلت إن إعلان هذه الأخبار في هذه الأيام هو رحمة من السماء لأهل الأرض من أبناء مصر كنت أعني ما أقول لأن مصر لديها من خبراء المياه الجوفية علي مر العصور العدد الكبير إلا أن أحدا لم يصرح بهذا الوضوح بوجود كميات كبيرة مختزنة من هذه المياه في هذه المنطقة إلا بعد ثورة يناير2011 وأذكر أن أحد وزراء التعمير في ثمانينيات القرن السابق أشار بوجود عين ينساب منها الماء بالتدفق الذاتي ليل نهار وطلب إيجاد الوسائل المناسبة لمنع هذا الاهدار ومنذ ذلك التاريخ يظهر الموضوع علي صفحات الجرائد ثم يخبو لكن أحدا لم يجزم بأن هذا الماء له خزان عظيم الاتساع وافر الانتاج مثلما سمعنا هذه الأيام. أقول ما أقول مستندا إلي مؤتمر صحفي عقده أحد علماء الجيولوجيا أعلن فيه عن عشرة اكتشافات جديدة تحتوي علي شواهد للمياه الجوفية العذبة في الجزء الغربي من الصحراء الغربية( آخر ساعة2011/10/26) وأقول هذا أيضا مستندا إلي تصريح لوزارة الزراعة عن طرح300 الف فدان بمنطقة منخفض القطارة لكبار المستثمرين في القطاع الزراعي( الأهرام2013/2/10) والذي تم تأكيده في2013/3/20 في العديد من الصحف بأن هذه المساحة تقع جنوب شرق المنخفض ثم أقول ذلك أيضا استنادا إلي تصريح لأحد أساتذة التاريخ السياسي الوسيط بجامعة الاسكندرية أكد فيه أن مخزون المياه الجوفية بشبه جزيرة سيناء يقدر بنحو500 مليار متر مكعب( الأهرام2013/2/19) أي نحو إيراد عشر سنوات كاملة من حصة مصر من مياه النيل.لابد أن أذكر الجميع هنا أن تداول مثل هذه الأرقام دون التأكد بل والجزم بصحتها يمكن أن يكون في غير صالح المفاوض المصري الذي يناضل لاقناع دول المنابع بأن مصر دخلت بالفعل في عصر الفقر المائي وأنها بصدد الدخول في عصور الندرة والقحط. علي فرض أن كل الأرقام التي ذكرت صحيحة أرجو أن ألفت الانتباه أيضا إلي أن هذه المياه الغالية الثمن مرتفعة القيمة بل ربما أؤكد أن هذه المياه أغلي ثمنا وأعلي قيمة من مياه النيل ذاتها ذلك لأن نقل مياه النيل إلي الصحراء الغربية أو الشرقية له تكاليف عالية ربما لا تتحملها ميزانية البلاد والهدف من هذه الملاحظة أن يكون لاستخدام هذا الماء مردود اقتصادي يتناسب مع هذا الثمن وهذه القيمة وقد أستطيع أن أقطع بأن الاستثمار في الزراعة ليس بالضرورة هو الاستثمار الذي يوفر العائد الأعلي- وحتي لو كان من الضروري الاستثمار الزراعي لسد الفجوة في انتاج الغذاء فأرجو أن نختار المحصول الذي يحقق العائد الأعلي أو المحصول الذي يمكن تسويقه خارج الديار المصرية والاستفادة بما يدره من العملات الصعبة في استيراد ما نحتاج إليه من المحاصيل التقليدية أو الاستراتيجية. إن العالم الذي أجمع في يوم من الأيام علي مبدأ المحصول مقابل قطرة الماء عاد وتراجع إلي مبدأ فرصة عمل مقابل قطرة الماء وأضاف أن يكون تنوع الأنشطة مقابل قطرة الماءوفوق ذلك كله الاهتمام بالبيئة مقابل قطرة الماء أي أن تحقيق التنمية المستدامة يستلزم أن يكون الترشيد هو عنوان استخدام الماء في الزراعة وأن تكون هناك مقارنة بين الزراعة والصناعة والتعدين وانتاج الطاقة وغير ذلك من الأنشطة التنموية ثم انه يجب أن يستخدم الماء بالقدر الكافي لتوفير العدد الأكبر من فرص العمل لتشغيل الشباب واستيعاب العدد الأكبر من السكان ثم المحافظة علي البيئة المائية والأرضية خالية من التلوث.