في بدايات أيام الثورة وبعد الاطمئنان الي أن النظام القديم قد انتهي أمره تماما, انشغلت النخبة السياسية الممثلة للتيارات الليبرالية والدولة المدنية بالتطاحن مع المجلس الأعلي للقوات المسلحة وفي الظهور علي الفضائيات. بينما كانت جماعة الاخوان المسلمين ومعها جماعات الاسلام السياسي منهمكة في الالتحام علي أرض الواقع مع الجماهير استعدادا للانتخابات البرلمانية. في تلك الأيام تزينت الشوارع المصرية بلافتات هذه الجماعات والأحزاب الدينية الجديدة تدعو المواطنين الي المشاركة في اللقاءات التي تعقدها يوميا سواء في مقارها أو بالمساجد والأندية والساحات الشبابية للاستماع الي برامجها السياسية للمرحلة المقبلة.. وكانت أن جاءت نتائج الانتخابات مناقضة لمبدأ ثورة يناير الخاص بالدولة الديمقراطية المدنية, ولكنها في الوقت نفسه معبرة عن قدرة تنظيمية استطاعت أن تستغل غفلة الثوار وتطاحنهم مع المؤسسة التي حمت الثورة, لتحقق مكاسب لم تكن علي البال أو الخاطر. المكاسب المتكررة للتيار الاسلامي جاءت رغم عدم تجاوز المشاركة الشعبية في الانتخابات والاستفتاءات التي اعقبت ثورة يناير نسبة ال40% بما في ذلك الانتخابات الرئاسية.. بما يعني أن زخم الثورة لم يفلح في تحريض ما يسمي الكتلة الحرجة للخروج عن صمتها وسلبيتها, وهي الكتلة التي مازالت تمثل الأكثرية من المصريين التي تضم ما اصطلح علي تسميته الطبقة الوسطي وما علي حوافها من الأعلي الي الأسفل. وفي جملة اعتراضية طويلة, من الواجب الآن وقبل الدخول الي استحقاقات المرحلة المقبلة وفي مقدمتها الانتخابات البرلمانية الجديدة أن نسأل: ماذا لو تحركت هذه الكتلة الحرجة الصامتة وزحفت الي مراكز الاقتراع؟ وماذا اذا وصلت نسبة من يريدون الادلاء بأصواتهم الي75% كما هي في البلدان الديمقراطية.. كيف يمكن استيعابها وضمان مشاركتها جميعها في الادلاء بأصواتها في الأجواء الأمنية نفسها التي سادت الجولات السابقة من الانتخابات.. كيف يمكن توفير المقار الانتخابية التي تسع هذه الملايين مع الأخذ في الاعتبار أن أطوال طوابير الناخبين- رغم النسب المتدنية للمشاركات السابقة كانت تشير الي أرقام قياسية علي مستوي العالم, الي درجة مد ساعات التصويت الي الحادية عشرة مساء, مع الأخذ في الاعتبار تقسيم عملية التصويت علي يومين بل علي أربعة أيام في الانتخابات المقبلة بالتناوب ما بين المحافظات. مع العودة الي الموضوع, مازالت النخب السياسية الليبرالية والمدنية وفي طليعتها جبهة الانقاذ تمارس هوايتها القاتلة في تجاهل تلك الكتلة الحرجة وتصارع طواحين الهواء أملا في زعزعة النظام الحاكم, وكفي الله المؤمنين شر الانتخابات ونتائجها المفزعة!.. والدليل علي ذلك أن أجمعت جبهة الانقاذ علي مقاطعة الانتخابات, وهي المقاطعة التي تنم عن العجز الشديد في التعامل مع الشارع والكتلة الحرجة, والرغبة في تجنب أي هزيمة جديدة. وما بين تمنيات هذه النخبة وبين الواقع مساحات شاسعة من التباعد المتصاعد عن الشارع المصري الذي بدأ في التململ وفقدان الثقة في كل شيء حتي في الثورة نفسها التي بات ينظر اليها كثير من قطاعات المجتمع بعيون الشك والارتياب.. وعلي استحياء بدأ الكثيرون في عقد المقارنات بين عهد مبارك بكل فساده وجموده وفشله, وبين عهد ما بعد الثورة وذلك الضياع الذي يوشك أن يقضي تماما علي أهم بلد في المنطقة تحت مخاوف الافلاس والحرب الأهلية. كان من واجب جبهة الانقاذ ومن حولها أن تراهن علي هذه الكتلة الحرجة التي تضم نحو60% ممن يحق لهم التصويت في الانتخابات, وأن تدرك أن صحيان هذه الكتلة من سباتها الطويل والعميق سوف يقلب الموازين رأسا علي عقب, وأن المعركة الآن لابد أن تركز علي من يفوز بهذه النسبة الضخمة من الأصوات. والمؤكد أن الانتخابات البرلمانية المقبلة ستكون مرحلة فاصلة في تاريخ مصر الحديث وأن من سيفوز بها سوف تستقر له الأوضاع لعقود طويلة قادمة, ومفاتيح الفوز ليست في المهاترات والاعتصامات والعصيان المدني بقدر ما هي في القدرة علي تحريك هذه الكتلة الحرجة في صالحه وفي الاتجاه الذي يريد, لكن تبقي هناك مشكلة مع الاسلاميين والليبراليين علي حد سواء وهي أن الغالبية العظمي من مكونات هذه الكتلة الحرجة ليست من النوع الذي يسهل قيادتهم بالمعونات المادية أو بمعسول الكلام, ولكنها من النوع العنيد الذي لن يمنح ثقته الا لمن هو قادر علي مواجهة التحديات الخطيرة التي تواجه الوطن.