عرفت مصر الدولة مع قيام عصر الأسرات من 6 آلاف سنة, ولكنها أيضا عرفت التنظيم السياسي من قبل ذلك, فكانت هناك أقاليم يربط بينها نهر النيل جغرافيا فقط, ولكنها منفصلة في حكم قبلي, يعيش علي العلاقات الأسرية البدائية لتنظيم الحياة, حتي بدأ عصر الأسرات فاستغل الفكر السياسي القائم, وقام بتطويره, لتقوم أول حكومة مركزية في التاريخ تحت سلطة الملك الإله. وعقيدة الملك الإله تختلف عن نظرية الحق الإلهي في العصور الوسطي, فالملك هو الإله, الذي أوكلت له الآلهة في السماء مهمة تحقيق (الماعت) علي الأرض, أي إقرار العدل والحق والاستقامة, والأهم.. النظام, فهو رمز للقوة الكونية للنظام, وبغير النظام تفسد الأرض, بينما الحق الإلهي يفصل بين شخص الحاكم والإله, ولكنه يحتكر حقيقة ما يريده الإله, وهو مسئول أمام الله وليس أمام الشعب! بالطبع لا يستسيغ العقل المعاصر فكرة الفرعونالنائب عن الآلهة في الحكم, ولكن بمعايير المكان والزمان والمجتمع, كان الفرعون حاجة اجتماعية, وتعبيرا عن نظام سياسي واقتصادي تقدمي في هذا العصر, لذلك كان يستحق الكثير والعديد من القصائد والابتهالات والترانيم والأناشيد التي تتغني في حب الفرعون! فتطورت نظرية الحكم بناء علي التطور الاجتماعي, وزيادة وعي الشعب بالمساواة الاجتماعية والعدل الإنساني, فظهرت شخصية جديدة للفرعون الذي يراعي تطبيق (الماعت) علي الناس جميعا, فاستمد الفرعون سلطته من تماسك المجتمع ورضاه عن النظم التي تسير حياته في ظل الراعي الصالح. ارتبطت مصالح الشعب بخلق حكومة مركزية تبسط نفوذها علي مساحات كبيرة من الأرض الواقعة علي ضفاف النيل, تنظم قواعد الحياة في ظل النهر العظيم, فقامت الأسرات علي هذه المصلحة الجماعية التي يحتاجها الجميع, واستغلت الأفكار الموجودة لتأييد حكمها الجديد, وعندما كنت في زيارة لمعابد قدماء المصريين في أبي سنبل وقفت أمام (قدس الأقداس), المكان الذي يرقد فيه 3 تماثيل صغيرة ليست لها ما للتماثيل داخل وخارج المعبدمن هيبة وجمال وضخامة, ولكنها كانت محرمة علي الشعب والنبلاء وحتي الكهنة, فلا يدخلها إلا زعيمهم والملك الإله علي اعتبار أن بها أسرار الآلهة الكبار الذين يحكمون العالم, أحسست بالفخر أن قدر الله لي وأنا من عامة الشعب أن أري ما لم يستطعه النبلاء من آلاف السنين! ولكني وقفت أمامها باحترام, أمام الفكرة التي خلفت حضارة إنسانية مازالت تتحدي الزمن, بل وتبث في المصريين الإرادة والأمل في تجاوز الصعاب.. فبناة الأهرام في سالف الدهر.. كفوني الكلام عند التحدي. وأعتقد أن أهم معالم الحضارة المصرية كان قدرتها علي التغير والتبدل والتطوير عمليا وفكريا, فهي حضارة واحدة, ولكن لها ملامح سياسية واقتصادية واجتماعية عديدة, فكانت المرونة واستيعاب ما يستجد من علوم وأفكار أهم ما يميز الشخصية الحضارية المصرية, فكانت في فترة بلدا زراعيا منعزلا تحت قيادة الإله حورس إله المساحات الشاسعة, وفي أخري بلد لا مركزي في أقاليم يحكمها الاقطاع تحت سلطة الفرعون مع تماسك للمجتمع الزراعي, ثم تحولت الي مجتمع حربي توسعي لطرد الهكسوس الأنجاس, وتأمين أمنها القومي بإخضاع البلاد المحيطة بها, فكان الشعب مؤمنا بشرعية الحكم ومطمئنا علي مصالحه وأمنه في ظل الفرعون, الذي استطاع أن يبني امبراطورية عظيمة, بتحقيق مصالح الناس واحترام عقائدهم, كأنه كان يعمل بالحكمة الإلهية, فأخذ بالعفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين! روعة الفرعون قدرته علي إرساء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي متكامل يقوم علي المصالح العامة, ينفذها طبقة من النبلاء والحكام الإقليميين والكهنة والقضاة, ولم يسقط حكم الفرعون إلا عندما توسعت الامبراطورية, وجمدت الأفكار,. وتكلست الطبقات, واختلاط المصريين بشعوب أخري وضعفت الحكومة المركزية, ولم تعد توفر الأمان والطموحات الشعبية في الترقي, فانهارت الامبراطورية والحضارة المصرية, عندما فقدت الثقة في حكم الفرعون! لايمكن أن يقوم نظام علي مبادئ سياسية يرفضها الشعب حتي لو حقق إنجازات مهمة, وحكم الفرعون لم يكن له أن يستمر وينشئ حضارة كتلك الحضارة المعجزة, إلا علي سند شعبي لمصداقية حكم الفرعون, وأركان حكمه, النابعة من قوانين وطبيعة الزمان والمكان الذي تسود عليه, فعندما اختلط المصريون بالأجانب وتبادلوا الآلهة, اختلطت الأفكار, واختلت المعايير فسقطت الحضارة بحكم الطبيعة الداخلية, قبل أن تسقط بفعل العوامل الخارجية, لذلك عندما نري ما يثار حاليا من معارك فكرية حول الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة وغيرها من المصطلحات التي يعج بها الفضاء الفكري المصري حاليا, نجد أنها انقسامات وهمية بين النخبة, والأجدي هو تبيئتها في الحياة العامة للشعب, أي أن تخرج هذه القيم الحداثية من قناعاته الثقافية والدينية وتقاليده القائمة, خاصة أنها قيم إنسانية حضارية ليس من الصعب استخلاصها من قيم شعب صاحب حضارة ضاربة في جذور التاريخ, فالفرعون المعاصر هو صاحب القدرة علي إرساء قيم الحداثة في تربة مستعدة وتتطلع للحداثة والتطور ومواكبة العصر, لكن من خلال بيئتها المحيطة وانطلاقا من ثوابتها الدينية والأخلاقية, وتحقيقا لمصالحها الحياتية, فيحقق التوافق بين المجتمع والدولة فيقوم الكيان الوطني علي أساس متين. طبيعة العصر لا تسمح بفرعون علي الطراز القديم, فقد ثبت أن الأفكار القديمة التي تنتمي لزمن مختلف لا تصلح لنفس الشعب في نفس المكان,كما لا تصلح الأفكار الأجنبية في مكان مختلف لشعب مختلف في نفس الزمان, فحاكمية الزمان والمكان هي المحدد التاريخي للقيم والأفكار, لذلك دائما ما تفشل عملية فرض الحداثة بالقوة وتؤدي لردة غير محمودة, الفرعون المعاصر لا يعتمد علي تركيز السلطة والدولة في شخصه ومن حوله, لكنه يعتمد علي مؤسسات لها منهج ونظام دائم تسير عليه, ويرتبط هو والمؤسسات بمصلحة الدولة العليا, الفرعون المعاصر الطامح لمكانة تاريخية مماثلة للفراعنة العظام, هو من يستطيع فهم طبيعة اللحظة التاريخية التي يمر بها الوطن, ويعيد ترتيب الأنساق الاجتماعية التي تعاني خللا وظيفيا, نتيجة فقدان الثقة في التحكم, وشعور كل طبقة ونقابة وشريحة اجتماعية بالظلم, وتطالب بحقوق لا نعرف من يلبيها؟! ولا يستطيع أعظم فرعون توفيرها إلا بإيجاد نظام يؤمن به الناس فيعملون وفق قواعد وقيم مشتركة لتحقيق مصالح مشتركة. نجح محمد علي وجمال عبدالناصر في فهم اللحظة التاريخية التي مرت بها مصر في عهديهما, فأقاما نظامين مختلفين, ولكن كل منهما حظي بالتوافق والتأييد الشعبي اللازم لإيجاد دولة حديثة, تقوم علي الإرادة الشعبية, وإقامة المشروعات التنموية, وارتبط الترقي الاجتماعي بالعلم والعمل, ففتحا باب الأمل أمام الجميع, فساد التسامح الاجتماعي, وتقلص الحقد الطبقي, وبرغم جدية مشروعيهما الوطنيين, فإنه لا جدوي من استنساخهما في الزمن الحالي, لاختلاف الزمن والظروف الداخلية والتوازنات الدولية, فالأمل الآن في مشروع للنضال المشترك يتوافق عليه الناس, يقوده فرعون عصري يدرك أن المصريين لن يتغنوا بحبه إلا باحترام تداول السلطة وإيجاد مسار اجتماعي مؤسسي يلتف من حوله الناس لا من حول الفرعون مهما تغنوا بحبه! فلم يعد هناك قدس للأقداس لا في الداخل ولا أيضا في الخارج! المزيد من مقالات وفاء محمود